بينما يحتفل الفلسطينيون فى جنين بالانتصار على آلة الحرب الإسرائيلية، وأنهم أثبتوا إرادتهم أمام قوات الجيش النظامى وقوات الأمن، فإن الأغلبية العظمى من السياسيين والعسكريين والخبراء، يتفقون على أن إسرائيل لم تحقق أى مكسب استراتيجى من الاعتداء على جنين، مدينة ال٥٠ ألف مقاوم. رئيس الوزراء صرح، بينما كانت قواته قد تلقت أوامر بالانسحاب، أن الحرب على جنين ستستمر مهما كانت الظروف. وزير الدفاع يوآف جالانت قال إن الجيش سيعود إلى جنين متى أراد أن يشن عمليات هناك لتطهيرها من الإرهابيين. ووراء هؤلاء وغيرهم من المسئولين، أعلن زعماء من وصفوا أنفسهم ب «المعارضة المسئولة»، بينى جانتس، ويائير لبيد، وميراف ميخائيلى، إنهم يساندون الجيش وقوات الأمن مساندة كاملة. بينى جانتس وزير الدفاع السابق قال: نحن نساند قوات الأمن والجيش، ونثق فى أنهم قادرون على تحقيق المهمة، و«نصلى لهم أن يعودوا فى سلام»... «نحن كمعارضة مسئولة نؤيد الحكومة فى حربها ضد الإرهاب». أما يائير لبيد زعيم «إيش أتيد»، ورئيس الحكومة المناوب فى الحكومة السابقة فقال: «أطفالنا يذبحون» - هكذا- هو لم يذكر شيئا عن الأطفال الفلسطينيين، و«إسرائيل لديها كل الحق فى الدفاع عن نفسها»... «نحن نساند قوات الجيش والحكومة الإسرائيلية فى هذا الشأن». ميراف ميخائيلى زعيمة حزب العمل قالت فى هدوء إنها تؤيد قوات الأمن تأييدا كاملا. ومن المنطقى أن يعلن هؤلاء مواقفهم المؤيدة للحكومة طالما أن الأمر يتعلق بعملية عسكرية ضد الفلسطينيين، هى الأكبر فى الضفة الغربية منذ نحو ٢٠ عاما.
العنف يملأ غياب السياسة
المثير للدهشة فى الأمر كله، أن الأغلبية العظمى من التعليقات الإسرائيلية على ما حدث فى جنين، أن أحدا لم يتناول فكرة أن الحل الحقيقى للصراع الإسرائيلى - الفلسطينى لن يكون أبدا حلا عسكريا، وأنه للتوصل إلى حل حقيقى لهذا الصراع، بعيدا عن العناد والتطرف، يجب البحث عن حل سياسى مقبول من الطرفين معا، ومضمون بواسطة القوى الرئيسية فى العالم والمجتمع الدولى ككل. هذا الغياب الكامل تقريبا لفكرة البحث عن حل سياسى، يترك فراغا كبيرا لصب الزيت على النار، خصوصا عندما تلتهب المشاعر فى عمليات عسكرية، يعرف كل من الطرفين أنها ستخلف ضحايا أبرياء، وأن أعداد وطبيعة الضحايا بين الفلسطينيين ستكون أكبر وأشد إيلاما، نظرا لتفوق آلة الحرب الإسرائيلية أرضا وجوا. من غير المنطقى أن تتبنى هذه الأطراف خيار الحل العسكرى، وهو الخيار الذى ثبت فشله مرة تلو المرة.
وهناك اتفاق على أن العملية العسكرية التى أُطلَق عليها اسم «البيت والحديقة» (Operation Home & Garden) لم تغير الوضع الاستراتيجى فى جنين، التى تقترب أن تصبح «غزة» أخرى فى شمال الضفة الغربية، كما يقول «مئير بن شبات» الذى شغل سابقا أهم المناصب الأمنية فى إسرائيل، حيث عمل مستشارا للأمن القومى، ورئيسا لجهاز الأمن الإسرائيلى «شين بيت»، ومع ذلك، فإن الرأى العام الإسرائيلى، المشغول أيضا بموضوع التعديل القضائى الذى تتبناه الحكومة الحالية، يبدو أكثر انشغالا بهذا الموضوع عن الانشغال بالبحث عن حل سياسى للقضية الفلسطينية. ومن الثابت طبقا لاستطلاعات الرأى العام أن شن عملية عسكرية ضد الفلسطينيين هو أقصر طريق للحصول على تأييد أكبر فى استطلاعات الرأى العام، وهو ما فعله نتنياهو فى مايو الماضى بالهجوم على غزة وقتل عدد من قيادات حركة الجهاد الإسلامى هناك.
تقييم عملية البيت والحديقة
وقد صدرت فى إسرائيل كمية كبيرة من الدراسات والمقالات فى شأن تقييم الهجوم على جنين، لكن التقييم الذى كتبه مئير بن شبات، ونشرته صحيفة «إسرائيل هايوم» يوم ٥ يوليو الحالى، يحتل مكانة خاصة بينها جميعا، ولذلك فإنه يحتاج إلى قراءة عميقة، لاستخلاص أهم الدلالات التى ينطوى عليها. لقد أمضى بن شبات ما يقرب من ٣٠ عاما من حياته العملية داخل جهاز الأمن الإسرائيلى «شين بيت»، وهو الجهاز ربما تفوق علاقته بالأمن الداخلى غيره من الأجهزة. كما أنه شارك فى التخطيط لعمليات كبيرة ضد بؤر المقاومة الفلسطينية من قبل، ومن بينها جنين. ومع أن بن شبات خرج رسميا من الخدمة، فإنه ما يزال قريبا جدا من قضايا الأمن القومى، حيث يرأس حاليا واحدا من أهم مراكز الدراسات الاستراتيجية فى إسرائيل، وهو «معهد ميسغاف للأمن القومى والاستراتيجية الصهيونية» فى القدس. ونستطيع أن نتناول أهم ما جاء فى مقال بن شبات على النحو التالى:
أولا: يرى مستشار الأمن القومى الإسرائيلى السابق أن العملية العسكرية الإسرائيلية فى جنين كانت ضرورية ولا مفر منها، إلا إنه فى المقابل، يعتقد أنها لن تكون كافية لتغيير طبيعة الموقف فى شمال الضفة الغربية، الذى قال إنه أصبح يمثل تكرارا للوضع فى غزة. ويقول إن إسرائيل «لا يجب أن تسمح بأن يتطور الوضع فى جنين إلى ما يماثل الوضع فى غزة».
ثانيا: بعد مرور عشرين عاما على العملية العسكرية الإسرائيلية «الدرع الدفاعية»، عادت جنين مرة أخرى لتكون قاعدة من قواعد المقاومة، مستلهمة الروح الكفاحية التاريخية التى يعبر عنها نموذج عز الدين القسام، الذى استشهد فى إحدى قراها، وهو يقاوم القوات البريطانية أثناء فترة الانتداب. وكان هدف العملية كما جاء فى الخطاب العسكرى والسياسى منذ عشرين عاما كما هو اليوم، وهو «تدمير البنية الأساسية» للعنف فى جنين.
ثالثا: القاعدة العامة التى تعمل وفقا لها إسرائيل فى عملياتها العسكرية ضد الفلسطينيين، كما يقرر شبات هو أن «تحقق هذه العمليات أهدافها بأقل قدر ممكن من الخسارة». وهو يوضح أن المخاطر التى يجب العمل على تجنبها أو تقليلها، تتضمن تجنب انتشار العنف إلى جبهات أخرى، وكذلك تقليل حدوث أضرار دبلوماسية. لكن يبقى بعد ذلك طبقا لما قاله بن شبات التأكيد على أن العامل الأكبر الذى يجب أخذه فى الاعتبار هو «أمن القوات»، والتحوط ضد مخاطر تعرضها لأعمال انتقامية فى مناطق أخرى، والتحوط ضد عمليات «الذئاب المنفردة»، مثلما حدث فى تل أبيب أخيرا. وشدد على ضرورة أن يتم وضع ترتيبات ضمان أمن القوات بدون إرباك الروتين اليومى للحياة، خصوصا أن آلاف الفلسطينيين يدخلون يوميا للعمل فى إسرائيل. ودعا بن شبات إلى رفع حالة الاستعدادات فى وكالة الأمن الداخلى الإسرائيلى (شين بيت) لمراقبة تحركات الفلسطينيين فى شمال الضفة الغربية، وكذلك الذين انتقلوا من الضفة للعيش داخل إسرائيل فى إطار سياسة «لم الشمل».
رابعا: إن السلطة الوطنية الفلسطينية لن تستطيع القيام بالدور المنوط بها. لكن السؤال الرئيسى الذى يطرحه بن شبات هو ماذا سيحدث فى جنين بعد إعلان انتهاء العملية العسكرية الأخيرة. وقال إن التقييم الحالى للعملية لا يشير إلى أى تغيير استراتيجى عما كان عليه الحال قبلها. حيث تعود مسئولية إدارة جنين إلى السلطة الوطنية الفلسطينية. وليس من المتوقع أن تقوم السلطة بدور مختلف عن ذى قبل، لأن سكان جنين يعتبرون أن أى تعاون أمنى مع إسرائيل، أو مجرد السماح بدخول القوات الإسرائيلية إلى المخيم هو «خيانة وطنية»، وهو ما يضعف أيضا موقف السلطة الفلسطينية فى مقابل تنظيمات مثل حماس والجهاد الإسلامى. واستنتج بن شبات من ذلك أنه من المستبعد أن تقوم السلطة الفلسطينية بأى مجهود جاد لإخراج المقاتلين أو القضاء على الأنشطة المعادية لإسرائيل فى جنين. ومن ثم فليس من المستغرب القول بأن «إسرائيل سيتعين عليها مواصلة تنفيذ هذه المهمة». وقال إذا أضفنا إلى ذلك الضعف الكامن فى هيكل السلطة الفلسطينية، واستمرار الصراعات الداخلية فى شأن وراثة الرئاسة بين المتنافسين على خلافة محمود عباس سياسيا، فإنه من الصعب جدا التفاؤل بقدرة قوات الأمن الفلسطينى على القيام بدور فى «مكافحة الإرهاب فى جنين»، والمحافظة على النتائج التى حققتها العملية العسكرية هناك.
الحرب الدائمة
الاستنتاج الكبير الذى يقدمه مئير بن شبات، يخبرنا أن إسرائيل ستعيش فى حالة حرب مستمرة مع الفلسطينيين، وأن أى عملية عسكرية مقبلة يمكن أن تلقى المصير نفسه الذى لقيته عملية جنين، وأن السلطة الوطنية الفلسطينية لن تستطيع أن تلعب دور «الشرطي» لصالح إسرائيل فى الأراضى الفلسطينية المحتلة فى المستقبل، وهو الدور الذى تناقشه الحكومة الإسرائيلية فى الوقت الحاضر. ويجب أن أوضح هنا أن المسئولين الإسرائيليين، أصبحوا يستخدمون مصطلح «يهودا والسامرة» على نطاق واسع جدا، منذ تشكيل حكومة الصهيونية الدينية المتطرفة، بعد فوز اليمين الصهيونى فى انتخابات نوفمبر الماضى. ويختفى تقريبا مصطلح «الضفة الغربية» من الخطاب السياسى لأعضاء الحكومة الحالية، بمن فى ذلك بنيامين نتنياهو، فى دلالة سياسية لا تحتاج إلى عناء من أجل تفسيرها، ألا وهى أن القيادة الإسرائيلية الحالية، تسعى لتهويد الضفة الغربية، وتحويل الفلسطينيين إلى أقلية أو جماعة من الدرجة الثانية فى مجتمع يهودى تماما، تتمتع فى أحسن الأحوال بظروف معيشية أفضل مما هى فيه الآن. ويتوقع بن شبات أن عملية «البيت والحديقة» سوف تتجدد فى شكل عملية مستمرة أقترح أن يطلق الجيش الإسرائيلى عليها » عملية قص الحشائش» على اعتبار أن الحديقة تحتاج من آن لآخر إلى التخلص من الحشائش والأعشاب الضارة التى تنبت فيها. هذا الاسم الذى يقترحه المسئول الأمنى الإسرائيلى السابق، ينطوى على اعتبار «الحديقة جزءا من البيت» وأن أصحاب هذا البيت هم المسئولون عن شئون الحديقة، خصوصا أن «الشرطي» المفترض - السلطة الوطنية الفلسطينية، أصبح عاجزا عن القيام بالدور المطلوب منه.
وبمقتضى الاقتراحات التى عرضها بن شبات فى مقاله المذكور، فإن نظرة إسرائيل إلى الفلسطينيين تعتبرهم «أعداء» ما لم يثبت العكس، وترى فى وجودهم مزاحمة غير مقبولة، وأن الإسرائيلى لن يشعر بالسلام فى وجود الفلسطينى. هذه النظرة تعكس معادلة خطيرة وهى أن وجود كل واحد من الطرفين ينفى بالضرورة وجود الطرف الآخر. هذه النظرة فى حاجة إلى تغيير عميق من أجل فتح باب للتعايش بسلام. ولا شك أن الحرب الدائمة من شأنها أن تنتج دائما مشاعر فردية، وإجراءات مؤسسين سلبية، تعمل ضد قيام سلام.
السلام المفقود
إذا كانت كل الطرق تؤدى إلى ترجيح فكرة عودة الجيش الإسرائيلى إلى جنين مرات ومرات، حتى لو نجح فى اعتقال أو تصفية الـ٣٠٠ شخص المشتبه فيهم، فلماذا لا تبحث الحكومة الإسرائيلية، عن طريق لتحقيق السلام، بينما أيدى الحكومات العربية ممدودة لإقامة علاقات مع إسرائيل، بدون مقابل. لقد تحدث يائير لبيد عن أن أطفال إسرائيل يتعرضون للذبح، ولا شك أن أحدا لا يفرح بذبح الأطفال واستهدافهم بالقتل بالرصاص. لا أحد يفرح بذلك سواء بالنسبة للأطفال الفلسطينيين أو الأطفال الإسرائيليين. لا يجب أن يفرح أى شخص بالقتل والإرهاب. هذه قاعدة إنسانية، ومن غير المنطقى التمييز فيها بين فلسطينى وإسرائيلى. ومن غير المنطقى أيضا أن تبنى دولة مستقبلها على أساس استمرار الحرب، خصوصا أن هناك فرصة لتحقيق السلام بين كل شعوب المنطقة، بما فيها الشعب الفلسطينى على أساس الحق والعدل واحترام الحقوق والحريات الأساسية. ببساطة، فإن ملحمة جنين تضع القضية الفلسطينية بأكملها فى موقعها الصحيح، باعتبارها مركز الصراع فى الشرق الأوسط، وأنها يجب أن تحصل على الأولوية الكافية للتعامل معها على هذا الأساس، طبقا لمبدأ «الأرض مقابل السلام»، وليس طبقا لمبدأ نتنياهو «السلام مقابل السلام»، الذى يحاول فصل القضية الفلسطينية، وقطعها تماما من بنيانها العضوى فى المنطقة، وإلقائها لأسماك القرش تأكلها فى البحر.