منذ أكثر من أسبوع بقليل، كان الزعيم الهندى ناريندرا مودى فى زيارة لمصر، حيث التقى الرئيس عبد الفتاح السيسى.. هذا اللقاء تم فى ظل الوضع الدولى الجديد والتحول المستمر فى مراكز ثقل الجغرافيا السياسية العالمية خاصة أن المخاطر كبيرة بالنسبة للدولتين؛ تريد الهند بشكل خاص تطوير صادراتها إلى شمال أفريقيا، بينما تسعى مصر للانضمام إلى مجموعة البريكس للبلدان النامية.. وفى الحقيقة، العلاقات طويلة الأمد بالفعل بين البلدين يتم تعزيزها فى العديد من المجالات الأخرى.
فى ٢٥ يونيو، بعد زيارته لواشنطن، وصل ناريندرا مودى إلى القاهرة فى زيارة دولة جديدة وتاريخية؛ فلقد مر سبعة وعشرون عامًا على آخر زيارة قام بها رئيس وزراء هندى إلى بلد الأهرامات. واشتمل برنامج الزيارة للمسئول الهندى، على لقاء مع مفتى مصر وزيارة مسجد الحاكم بأمر الله التاريخى، ولقاء مع رئيس الوزراء وأخيرًا مقابلة مع الرئيس السيسى. وتأتى هذه الزيارة بعد زيارة الرئيس المصرى للهند خلال العيد الوطنى فى يناير الماضى.
تعود بداية العلاقات الحديثة بين مصر والهند إلى اتصالات مستمرة بين سعد زغلول والمهاتما غاندى اللذين كان لهما أهداف مشتركة من بينها الاستقلال عن التاج البريطانى وفى عام ١٩٥٥، بدأت مصر-عبد الناصر والهند-نهرو حركة عدم الانحياز ومنذ ذلك الحين، كانت العلاقات دائما ودية وقوية وعميقة، والتبادلات التجارية متعددة وكبيرة.
وبسبب الحرب الروسية الأوكرانية، اتجهت الحكومة المصرية فى أبريل ٢٠٢٢، إلى الهند كمصدر لاستيراد القمح حيث اتفق الجانبان على كميات كافية من القمح لتلبية الاحتياجات ومشروع الدعم للمواطن المصرى الذى تطبقه الحكومة فى مصر (يستفيد من هذا البرنامج أكثر من ٦٠ مليون شخص).. هذا الاتفاق يأتى فى ظل ظروف مُرضية اقتصاديًا فى وقت تسبب فيه الصراع فى أوكرانيا فى ارتفاع الأسعار بشكل كبير.
وبعد ذلك قامت الهند بتصدير حوالى مليون طن من القمح إلى مصر فى عام ٢٠٢٢ وأرسلت بالفعل شحنة من ٢٤٠ ألف طن فى نهاية ربيع العام الماضى، وعلى مدى سنوات قليلة، أرادت القاهرة تعزيز مجالات التعاون الثنائى مع نيودلهى، لا سيما فى مجال الدفاع والأمن.
وفى فبراير ٢٠٢١، استضافت مصر مناورة جوية بين الجيشين المصرى والهندى استمرت عدة أيام، شارك فيها عدد من الطائرات المقاتلة متعددة المهام. ومع هذا التكثيف المستمر للشراكة الاستراتيجية بين مصر والقوة الآسيوية الصاعدة، لا تزال ملفات التعاون الأمنى ومكافحة الإرهاب هى التى تسيطر على معظم محاور المناقشات بين الرئيسين المصرى والهندى.
وفيما يتعلق بهذ الملفات، تم توقيع عدد من الاتفاقيات الأمنية فى نهاية عام ٢٠٢٢ بين مصر السيسى والهند للقومى ناريندرا مودى، خاصة أن ١٦.٢٪ من السكان الهنود مسلمون، حوالى ٢٠٠ مليون شخص، بالإضافة إلى أن الهند انشغلت منذ عدة عقود فى معركة شرسة ضد الإسلام الراديكالى.. كما شملت تلك الاتفاقيات ملفات خاصة بتبادل المعلومات حول أفغانستان وباكستان.
تنويع شراكات مصر الخارجية
فى يوليو ٢٠١٣، أثناء إقالة الرئيس المصرى، من جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسى والذى تم وفقا لإرادة الشعب المصرى تعرضت مصر لانتقادات شديدة من قبل إدارة أوباما حيث علقت الولايات المتحدة لبعض الوقت مساعدتها التاريخية والسنوية (حوالى ١ مليار دولار فى السنة).
وأمام كل ذلك استطاع الرئيس السيسى أن يجعل دور مصر أساسيًا فى المنطقة؛ لهذا كانت العلاقات بين الرئيس السيسى والرئيس الواقعى والبراجماتى ترامب ممتازة حيث رأى ترامب الزعيم المصرى، بكل ما تعنيه الكلمة، عاملًا من عوامل الاستقرار، وحليفًا ثمينًا فى الحرب ضد الإسلام السياسى والجهادية، ومع عودة الإدارة الديمقراطية إلى واشنطن فى يناير ٢٠٢٠، شهدت العلاقات بين مصر والولايات المتحدة فتورًا مرة أخرى.
هنا مرة أخرى، يعرف السيسى جيدًا كيف يجعل دور مصر لا غنى عنه فى المنطقة بالنسبة للأمريكيين، حيث كانت مصر هى أصل إنهاء القتال الأخير بين إسرائيل وغزة فى ربيع عام ٢٠٢١ كما نجح الرئيس المصرى فى سياسته الإقليمية والدولية فى إعادة مصر إلى مكانتها الكاملة على رقعة الشطرنج.
وأمام كل هذه التطورات أدرك الرئيس السيسى أنه يتعين عليه تنويع دعمه الإقليمى والدولى الاستراتيجى من أجل الحصول على سياسة خارجية مستقلة قدر الإمكان بعيدا عن أى تأثيرات خارجية؛ فى مواجهة المشاكل الاقتصادية المستوطنة والتى تزايدت بسبب أزمة الوباء العالمى وكانت مصر، على مدى السنوات العشر الماضية، أقرب إلى حد كبير، على المستوى الإقليمى، من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
كما عزز السيسى علاقاته مع روسيا بشكل كبير (كما ذكرت فى كتابى بوتين العرب، VA ditions، ٢٠٢٠) ولكن أيضًا مع الصين، التى تستثمر بكثافة فى مصر.
وكما رأينا، أدت الحرب فى أوكرانيا إلى تفاقم الأزمة المالية العالمية وأيضا فى مصر؛ التى رفضت مثل معظم جيرانها العرب (وكذلك ٣/٥ من الكوكب)، اتباع سياسة العقوبات الغربية ضد الكرملين ولا تزال القاهرة تحافظ على علاقاتها الجيدة مع موسكو.
وترى مصر مع نظرائها وجيرانها فى المنطقة أن هذه الحرب فى أوكرانيا بين الأوروبيين والأمريكيين والروس هى حرب ذاتية التدمير وانتحار جيوسياسى واقتصادى حقيقى للغرب.. وأمام كل ذلك لا تؤمن العديد من دول المنطقة على الإطلاق بهزيمة روسيا أو حتى بسقوط بوتين وبالنسبة للعديد من المراقبين غير الغربيين.
يبدو أن أوروبا وخاصة الولايات المتحدة تدخل مرحلة الشفق فيما يتعلق بهيمنتهم على العالم. مهما كان الأمر، فمن الواضح أن هناك تحولًا فى نقطة الجاذبية فى الجغرافيا السياسية العالمية.
فى غضون ذلك، فى القاهرة كما فى أى مكان آخر (رأينا هذا مرة أخرى مؤخرًا مع التجديد الدائم لاتفاقيات أوبك+ وبين الرياض وموسكو بشأن النفط)، دون أن تؤثر تمامًا على علاقاتها مع واشنطن.. يبدو أنه لم تعد هناك ثقة فى الزعماء الغربيين الحاليين، الذين فقدوا الكثير من المصداقية وأصبحوا متقلبين فى مواقفهم بشكل كبير.
وباختصار، من المنطقى أيضًا أن تقوم القاهرة ونيودلهى فى هذا السياق بتعزيز العلاقات بينهما خاصة أنه، كما قلنا، منذ الحرب فى أوكرانيا، أصبحت الهند واحدة من الموردين الرئيسيين للقمح للمصريين والذين لا يزالون على علاقات جيدة مع روسيا.
إضافة إلى كل ذلك، تريد نيودلهى تعزيز وجودها فى مصر، أكبر اقتصاد فى شمال إفريقيا، لا سيما فى قطاعات البنية التحتية والطاقة والأغذية الزراعية ومن جانب القاهرة، من المتوقع أن تدعم الهند بقوة ترشيح مصر فى «نادى بريكس» الاقتصادى الذى يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.
معلومات عن الكاتب:
رولان لومباردى رئيس تحرير موقع «لو ديالوج»، حاصل على درجة الدكتوراه فى التاريخ، وتتركز اهتماماته فى قضايا الجغرافيا السياسية والشرق الأوسط والعلاقات الدولية وأحدث مؤلفاته «بوتين العرب» و«هل نحن فى نهاية العالم» وكتاب «عبدالفتاح السيسى.. بونابرت مصر».. يخصص افتتاحيته فى هذا العدد، للعلاقات بين مصر والهند.