كيف فعلوها؟ سؤال يتبادر لأذهان زوار مقابر السرابيوم الأثرية في سقارة التي تُعدّ من أبرز وأهم المواقع الأثرية في مصر وأكثرها عجبًا. تضم مقابر السرابيوم بسقارة مقابر العجل المُقدّس المعبود "أبيس"، التي تحتوي على ٢٤ تابوتا صُنع غالبيتها من الجرانيت المُستخرج من محاجر أسوان، وتم نقله بالسفن عن طريق النيل.
تحتوي مقابر السرابيوم على ممر رئيسي منحوت في الجبل بطول ٣٠٠م، وعلى جانبي الممر غُرف الدفن التي وضعت بها التوابيت، والتي اكتشفها "أوجست مارييت" عام ١٨٥١م، حيث عثر على كل التوابيت مفتوحة وخالية من المومياوات، ولم يجد إلا تابوتًا واحدًا مغلقا، فُتح بمعرفته وعُثر بداخله على مومياء العجل أبيس المحفوظة إلى الآن بالمتحف الزراعي.
صبري فرج، مدير عام آثار سقارة، يوضّح أن جبانة الحيوانات المقدسة، دفن بها آلاف الحيوانات المحنطة داخل سراديب أشهرها جبانة المعبودة باستت "القطة" وآنوبيس "ابن آوي"، وجبانة المعبود أبيس "العجل"، كما تحتوي المنطقة على جبانات حيوانات وطيور مثل "أبو منجل" و"الصقور" و"قردة البابون" و"الأبقار" أمهات العجل "أبيس".
الإله أبيس عُبِد في منف التي كان الإله "بتاح" المعبود الرئيسي بها، واتحد أبيس مع أوزيريس، وأصبح المعبود الخالد أوزوريس أبيس، وهو الاسم الذي اختصره قدماء الإغريق فأصبح سيرابيس، وبعد موت العجل كان يُحنط في منف وتُدفن موميائه في السيرابيوم بسقارة داخل تابوت ضخم من الجرانيت أو البازلت، ويبلغ أكبر هذه التوابيت وزنًا ٧٠ طنا.
الباحث الأثري جابر عبد الدايم يقول إن السيرابيوم، أحد أكبر الاكتشافات والمواقع الأثرية التي تُثير تساؤل الباحثين والزوار منذ أن اكتشف في عام ١٨٥٠م، ومن العجيب أن هذا الكشف لم يكن مخططا له، إذ إن مارييت المستكشف الفرنسي كان قد قَدِم إلى مصر للحصول على مخطوطات وأيقونات قبطية يثري بها عرضًا في متحف اللوفر، إلا أن "مارييت" وقف متأملا سقارة من مكان بعيد فوق قلعة الجبل متذكرا إشارات قديمة من أحد الجغرافيين الإغريق تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، فاستخدم ما تبقي من أموال للحفر في منطقة سقارة بحثا عن السرابيوم المفقود.
تُعد التوابيت المكتشفة في ممرات السرابيوم بتصميمها المبهر أيقونة الزيارة السياحية والأثرية مع مجموعة الهرم المدرج في منطقة آثار سقارة.
تتعدد الشروحات والتفاسير بداية من التاريخ القديم حتى الآن حول دفنات العجول المقدسة، والتي تعود لعصر الدولة المصرية الحديثة، وحتى العصر البطلمي، ومرورًا بالحديث عن الألوهية التي خُصصت لها تلك الممرات والتوابيت بالغة الضخامة، حيث دُمج معبودان أوزير وحابي الذي اعتبر روح المعبود بتاح الإله الرسمي لمنطقة "منف" وراعيها.
ورغم اجتهادات الأثريين والباحثين والعلماء تبقى التساؤلات التي تتبادر الي ذهن الزائر وما زالت الإجابة عنها غير شافية، ومن هذه الأسئلة، كيف نُقلت هذه التوابيت من المحاجر إلى عمق الصحراء؟ وكيف استقرت في أماكنها الضيقة بهذه الدقة المتناهية؟ كيف قُطعت وصُقلت بهذا الشكل المذهل؟ وكأنها قطعت لأعظم الملوك، لماذا كان حجم التابوت أكبر بكثير من حجم العجول أو الثيران المقدسة التي من المفترض أنها دفنت فيها؟ لماذا عُثر على هيكل أو مومياء عجل في تابوت واحد من أصل أربعة وعشرين عثر عليها حتى الآن ووجدت البقية خالية؟ هل كانت دفنات رمزية؟ ولماذا كل هذه الكلفة لدفنات رمزية؟
والسؤال الأهم ولماذا استخدم حجرا صلدا كالجرانيت في صُنع التوابيت ولم يستخدم الحجر الجيري المتوفر في المنطقة، والأيسر في النحت والأقل في التكلفة؟ هل كان وراء ذلك أسباب علمية؟ ومن الذي حرّك أغطية التوابيت الثقيلة بهذه الطريقة؟
بطبيعة الحال لم يخل الأمر من تساؤلات إيديولوجية عن انتشار عبادة الحيوانات بهذه الصورة في الدولة الحديثة، وعن مدى تأثير ذلك على المجتمعات الأخرى التي انفتح عليها المصريون فتأثروا بها حتى أصحاب العقائد السماوية.
بعد الكثير من الانبهار، والعديد من الأسئلة، يجد الزائر نفسه أمام لا شيء، لا إجابة ترد على تساؤلاته التي طرحها بدافع الشغف والحب والسعي نحو المعرفة عن هذه الحضارة الكبيرة، الإجابة الوحيدة التي تأتيه مفادها أن العلم حتى الآن لم يتوصل لسر هذه المقابر، وتلك التوابيت، وفي النهاية يُغادر الجميع وتبقى الإجابة خفية داخل الممرات، حبيسة التوابيت، وكأنها تأبى البوح بأسرارها.