عارض السلطة المطلقة للنص، وقدم طرحًا جديدًا يتعلق بالتراث والنصوص الدينية الحاكمة لمسيرة العقل العربي، وهكذا خالف المفكر الراحل الدكتور نصر حامد أبوزيد (١٠يوليو ١٩٤٣- ٥ يوليو ٢٠١٠) الأفكار التقليدية والموروثة، فقد عاش حياته من أجل قضاياه يتحلى بالجرأة والشجاعة في طرح تلك الأفكار، كما أن رد الاعتبار الحقيقي له يكمن في إعادة تمثل ما ذهب إليه في مشروعه التنويري، وقيام الباحثين بإحياء ما قدمه سوف يساهم كثيرا في معالجة الأوضاع الفكرية المتردية.
كافح أبوزيد وجاهد كي يتابع دراسته بعد حصوله على دبلوم المدارس الفنية الصناعية، حتى أصبح أستاذا جامعيًا مرموقًا، بات مثيرا للجدل بعدما تعرض لهجوم كبير وخاصة حين تعلق الأمر بتكفيره، لكن القارئ الجيد يدرك مدى تعمقه في الدين وإخلاصه في البحث والدراسة.
إضافة إلى تلمس الروح المصرية البسيطة التي تشبع بها مذ كان طفلا، إذ قال عن نفسه في مقدمة كتابه "هكذا تكلم ابن عربي": كانت نشأتي في أسرة ريفية متواضعة، يُعد التصوف العملي أبرز السمات التي يمكن ملاحظتها في هذا النسيج، فقصص الأنبياء وكرامات الأولياء وأحاديث الصالحين من أسلاف القرية والقرى المجاورة تعد من أهم المعارف التي ترتبط بالطفولة وذكرياتها".
تعلق المفكر الراحل بالكتابة عن التصوف ولا سيما تجربة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، حتى قال عنها: "كان الحافز هو رغبتي في استكمال معرفتي بقطبي التراث الإسلامي الأساسيين: العقلانية والروحانية. كنت قد انتهيت من دراستي للماجستير عن قضية "المجاز في القرآن عند المعتزلة" فهم اللاهوتيون المسلمون الذين حاولوا تقديم تأويل عقلاني للعقيدة الإسلامية.. والتجربة الروحية عند ممثلها الأكبر محيي الدين بن عربي وأثرها في بلورة إطار تأويلي للوحي.
التلاقي بين تجربة العقل والروح
حاول أبو زيد خلال تعامله مع الدراسات الإسلامية أن يقف على التجربتين العقلية المتمثلة في مدرسة المعتزلة، والتجربة الروحية التي تمثلها مدرسة التصوف واختار لها ابن عربي الأندلسي وقدم كتابه المعروف "هكذا تكلم ابن عربي". في كتابه "هكذا تكلم ابن عربي"، رأى أبو زيد أن اللقاء النادر والمشترك الذي جمع بين الفيلسوف أبي الوليد بن رشد والشيخ الأكبر ابن عربي هو بمنزلة تقابل بين تجربتي الروح والعقل، أو تجربتي العرفان والبرهان، لافتًا بدوره إلى عدة نقاط في غاية الأهمية وهي أن فارق السن بين الصبي ابن عربي والفيلسوف كبير جدًا.
كما أن مجيء تلك الرواية في كتاب "الفتوحات المكيّة" يؤكد أن ابن عربي كتبها وهو شيخٌ كبير، أي أنه استدعى ذلك الحدث من ذاكرته "فالذاكرة تعيد تشكيل الحدث من خلال الأسلوب السردي"، إلى جانب انفراد الشيخ برواية اللقاء فلم يذكرهُ أحدٌ غيره.
يُرجِّح أبو زيد أن سؤال ابن رشد عن كيفية الوصول للحقيقة عن طريق الكشف والفيض الإلهي، وعن موافقته للنظر العقلي، تعود جذوره إلى ابن طفيل، أستاذ ابن رشد، الذي اختاره للخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن كي يشرح له "قلق عبارة أرسطو"، فسؤال ابن رشد "ينطلق من خلفيّة فكرية يمكن تلمّس ملامحها فيما كتبه ابن طفيل في رسالته حي بن يقظان"، فخلالها “يمهّد ابن طفيل لقارئه أن العقل الإنساني في سعيه المخلص والدؤوب للمعرفة والفهم تحوطه العناية الإلهية وترعاه دائما".
ما سبق، يشرح الجذور الفكرية لسؤال ابن رشد الذي وجّهه للشيخ ابن عربي، حول حقيقة التلاقي بين التجربتين، فيراه متمثّلًا في أستاذه ابن طفيل الذي بحثَ العلاقة نفسها بين العقل والروح في قصته المشهورة "حي بن يقظان".
المتطرفون والمعتدلون ومظاهر الصراع
في الوقت الذي يعود فيه أبو زيد إلى في الدراسات الإسلامية باحثا عن التجربة الروحية والتجربة العقلية، والاتجاهات الانفتاحية التي تعاملت مع النص بوصفه معطى تاريخي في سياقات بشرية معينة، لم يغفل الجماعات الإسلامية التي وقفت له بالمرصاد وحاربته وقصته في الحسبة والتفريق بينه وبين زوجته شهيرة، ودور الدعاة المنتمين إلى جماعات سلفية وإخوانية وغيرها.
منذ البداية كشف أبو زيد عن تخوفه من الاصطدام بالتيار الإسلامي المتطرف لأنه بلا شك يملك جناحا مسلحا وعندما ينهزم فكريا لا يجد بدا من استخدام جناحه العسكري للتعبير عن نفسه وعن سلطته، حيث قال: "الحقيقة أن ثمة حربا بالمعنى الحقيقي لا المجازي حربا يخوضها الإسلاميون بأسلحة التفكير والوصف بالردة والعلمانية التي جعلوها مساوية لمفهوم الإلحاد لأي اجتهاد يتناقض مع أطروحاتهم.
ويلي الاتهام بالكفر ومشتقاته إطلاق الرصاص من جانب الجناح العسكري للاتجاه الإسلامي". في الوقت نفسه أكد أنه "ليس لخصوم الإسلاميين من الليبراليين ودعاة التنوير بكل اتجاهاتهم وفصائلهم أية أجنحة عسكرية مماثلة للأجنحة العسكرية الإسلامية".
عقد أبو زيد مقارنة بين اتجاهين، تيار الإسلاميين القائم على الفهم الحرفي والضيق المغلق، والتيار التنويري القائم على محاولة الفهم العصري المتحرر المستنير للإسلام، الأول يتصور الإسلام هو الواقعة التاريخية الأولى للوحي، ويتصورن أن تحولاتها وانفتاحها محض ضلال وانحراف وتزييف يجب الخلاص منه وهو موقف المتطرفين من أمثال سيد قطب وأبو الأعلى المودودي اللذين وصما التاريخ الإنساني كله حاشا العقود الأولى من تاريخ الإسلام بالجاهلية والضلال، أما المعتدلين فهم يعتدون بالتاريخ الحقيقي للدولة الإسلامية وصولا إلى مرحلة إلغاء الخلافة.
ثلاثة من مظاهر الصراع بين الفريقين أبرزها أبو زيد، كان الأول منها هو تقديس التاريخ ودراسته بمنهج الاحتفال والتوقير، وذلك في مقابل منهج التحليل والتفسير والنقد، أما المظهر الثاني فيحدده بـ"تقديس الأئمة واعتبار اجتهاداتهم نهائية وصائبة ومحاربة أية محاولة لتحليل هذه الاجتهادات بوصفها اجتهادات بشرية تعبر عن مواقف فكرية اجتماعية تنبع من مصالح وتوجهات أيدولوجية".
أما المظهر الثالث فيتمثل في ما أسماه بـ"أسلمة المعرفة" وهو المظهر الكاشف عن جوهر الأطروحة الإسلامية والمتمثل في إلغاء العصر والتاريخ والعلم والمعرفة وذلك بتصور أن ذلك كله كامن ومضمر ومضمن في النصوص الأصلية، وهو موقف كاشف بدوره، بحسب رأي أبو زيد، عن معنى التقدم في الخطاب الإسلامي، إنه التقدم بالحركة إلى الخلف وبالقراءة التراجعية للنصوص أي القراءة التي تبدو عصرية لكنها في الواقع ترتهن الواقع كله والعصر في أسر الماضي الذي يستمد سلطته من كونه كذلك.