بعد مسيرة نقدية وأدبية تغلب عليها روح الشجاعة والدأب والفكر المنفتح، حصل الناقد الأدبي الدكتور محمد سليم شوشة، على جائزة الدولة التشجيعية عن كتابه "الصورة والعلامة: أثر التحولات الثقافية في الرواية العربية المعاصرة" التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة.
سليم شوشة، الذي فاز بعدة جوائز رفيعة في مجال الرواية والإبداع، انشغل في كتابه النقدي "الصورة والعلامة"، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، برصد تطور البنية السردية للرواية العربية، محللا مظاهر تنوعها، رابطًا بين المستجدات وأصولها الناتجة عنها المتمثلة في عدة تغيرات اجتماعية وثقافية، كاشفًا عن دور التحولات الحضارية الكبرى في تغير مفاهيم الإنسان، ووفقا لـ"شوشة" فإنه إذا كان الإنسان قد تغير فإن عملية التلقي كلها قابلة للخلخلة والاختلاف متأثرة بالسمات الجديدة، وبات من المنطقي أن يتجاوب معها الخطاب الروائي المعاصر.
في حديثه لـ«البوابة»، تطرق "شوشة" إلى العوامل المؤثرة في تميز النقاد وزيادة معارفهم، كما تحدث عن كتابه النقدي الفائز بالجائزة، ورصده لظاهرة مثل "جماليات المعرفي في الخطاب الروائي"، وأيضًا ما تعكسه بعض الروايات التاريخية مما يمكن وصفه بـ"الهروب من الواقع"، إلى جانب كشفه المزيد من خطر الأدلجة الدينية التي تسربت إلى الرواية.. وإلى الحوار..
** بداية، بالرغم من الشكوى المعتادة من قلة النقاد أمام الإبداع، فإن هذه القلة أيضًا ليست على مستوى واحد من الكفاءة والمتابعة والدراسة، برأيك ما هي العوامل المؤثرة في تميز الناقد الأدبي؟ حدثنا عن حصيلة الناقد ومعجمه ومعارفه، ما هي مصادره في توسيعها وتمددها؟
الناقد يحتاج إلى أشياء كثيرة ليكون متميزًا وتتسم تجربته بالتنامي والتطور، أولها وهي المعارف الأساسية أن يكون متمكنا من اللغة العربية وعلوم البلاغة العربية، وأيضا أن يكون على صلة قوية بالفلسفة بكل مراحلها تقريبا وبخاصة الفلسفة القديمة والحديثة، ولا بأس من أن يكون متمكنا أيضا من الفلسفة الوسيطة التي ارتبطت بالعهدين المسيحي والإسلامي، لكن القديمة عند أفلاطون وأرسطو أساسية ولا يمكن الاستغناء عنها للناقد، بالضبط مثلما هي أساسية وجوهرية جدا المعرفة بالفلسفة الحديثة بمدارسها ونزعاتها المختلفة.
وكذلك أن يكون منضبطًا منهجيًا ولكن دون إزعاج للقارئ وهذه هي المعادلة الصعبة أمام أي خطاب نقدي قوي أن يطرح شيئا قويا وجديدا ومختلفا بسهولة وأن يقدم كل رؤية عميقة حول النص أو الظواهر الأدبية ولكن في لغة سلسة وفكر يتسم بالبساطة والوضوح الشديد، وقليلون من يقدرون على هذا.
** بخصوص كتابكم "الصورة والعلامة"، أردت أن تلمس نتيجة التغيرات المتراكمة الاجتماعية والتقنية على الخطاب الروائي وبنيته السردية، برأيك كيف أثرت هذه التغيرات على الخطاب الروائي؟
أثر التحولات الثقافية في الخطاب الروائي كان كبيرًا جدًا والأهم أنها تأثيرات ناعمة ومتوارية أو غير مباشرة في تجليها في الخطاب الروائي، وهي مرتبطة بالشكل والمضمون معا، فهناك تأثيرات خاصة بعصر الصورة أو الجوانب الإدراكية والبصرية في الخطاب الروائي بوصفها أثرًا لعصر الميديا والكاميرا وصفحات التواصل الاجتماعي والسينما والمنصات الإعلامية وغيرها.
وهناك تأثيرات ترتبط بالمضمون أو بالعالم الروائي، إذ الإنسان نفسه تغير ولم يعد هو نفسه الإنسان في الحقب والعقود الماضية، فأصبح الإنسان شغوفا بدرجة كبيرة بالمعرفة وعقلانيا إلى حد بعيد ولا يقنعه أي شيء وهذا الأمر مثلا انعكس على الراوي وتقنياته وأساليبه أو مدى فاعليته وأدواره في الخطاب الروائي، وقد كان الكتاب يتحرك بين التنظير والتطبيق وإن كان يركز بدرجة أكبر على التطبيق حتى تصبح التطبيقات دليلا على الفكرة المطروحة.
فنجد مثلا أن هذا الشغف بالمعرفة والعقلانية دفع إلى ما أسميته بجماليات المعرفي في الخطاب الروائي وهي الظاهرة التي ألح عليها في كثير من مقالاتي منذ 2015 تقريبا وكتبت عنها كثيرا وهكذا نشأت أو ظهرت جماليات جديدة ومختلفة عما كان في السابق في الخطاب الروائي العربي، وهكذا فكانت هذه التأثيرات حاضرة في الشكل والمضمون معا.
** نسمع كثيرا أن الرواية ليست مجالا لتلاوة المعلومات الطبية أو الفيزيائية أو غيرها، وأنت وصفت جميع الروايات محل دراستك بأنها اعتمدت على ما أسمته بـ"جماليات المعرفي"، كيف تخلص الخطاب الروائي من ثقل الخطاب المعلوماتي الجاف؟
نعم، الرواية ليست مجالاً لتلاوة المعلومات بشكل مباشر، ولكن الرواية بالأساس تعبر عن الحياة بكل أبعادها، والعلوم والمعارف جزء أساسي من الحياة وخاصة في هذا العصر الذي هو عصر المعرفة بامتياز ويستطيع أن يصل أي قارئ للمعلومة عبر محركات البحث، ولهذا فإن تمثيل المعرفة وتجسيدها أو توظيفها في الخطابات الروائية هو تحدٍ كبير وحقيقي أمام الروائي الواعي بعصره أو بلحظته ويستوعب قيمة المعارف والمعلومات ويدرك كيف يوظفها دون أن تتسم روايته بالجمود والجفاف أو بقلة الطابع الإنساني أو يجعلها محاصرة في هذه الزاوية.
ولذلك فالأمر يبدو في احتياج لخلطة عبقرية أو تتسم بالذكاء من الروائي الذكي، يوازن فيها بين الحياة بسمتها الحركي والدرامي وتمثيل الحياة اليومية وأحداثها الهينة والعابرة وبين المعلومات والمعارف المتخصصة التي يدمجها في هذا العالم أو يوظفها فيه.
** في دراستك للروايات المستمدة من التاريخ، سميت الفصل "الهروب من الواقع"، أكان هذا توجها سلبيًا لكتاب الرواية؟ ولماذا لجأوا إليه؟
لم يكن توجهًا سلبيًا بقدر ما كان نزوعًا إلى توظيف التاريخ في رؤية الواقع وميلاً إلى الماضي بوصفة واحة مريحة أو مساحة تقل فيها آثار الصخب والضجيج المهيمن على الحياة الراهنة، لا أقدر على تبرئة هذه النزعة من فكرة الهروب من الواقع بالضبط مثلما لا أقدر على سلبها الارتباط بهذا الواقع بشكل غير مباشر عبر الإسقاط، وعموما هذه الظاهرة كانت واضحة في فترات الاضطراب والقلق السياسي بعد 2011 أي أنها لم تكن مهيمنة أو غالبة طوال الوقت ولدى أغلبية الروائيين، بل كانت مجرد لمحة لدى قطاع أو فئة أو بعض الأصوات الروائية.
** في حديث لك، حذرت من كتابة الرواية التاريخية لأنها تعمل على تضليل القارئ بتصوير أن فترة زمنية ماضية كانت مثالية وحالمة يجب العودة إليها، هل هذه هي السمة الغالبة على الرواية التاريخية؟ وكيف نفرق بينها وبين الكتابة التي استلهمت التاريخ لدعم المعنى الإنساني والحضاري لدى المتلقي؟
= هذه فئة أخرى من الرواية التاريخية التي حذرت منها أو رأيتها قد تكون سلبية أو ذات توجهات معينة، فهي نوعية من الخطابات الروائية التي تريد أن تجعل القارئ يعيش منعزلا في الماضي وأن يتصور أن عصور الماضي وبخاصة ماضي الخلافة هي العصور المثالية أو النموذجية التي يجب أن نعيد إنتاجها وأن نتقوقع داخلها، وهذه الروايات مؤدلجة أو ليست بريئة تماما من الأيديولوجيات الدينية بشكل خاص وكأنها بداية لتجنيد القراء ليكونوا منتمين إلى الخلافة وعصورها.
والحقيقة أنها روايات تستهدف المراهقين بشكل خاص وهي على قدر كبير من الضعف من ناحية الإحكام العقلي والمنطقي ومليئة بالمغالطات التي قد لا يستطيع القراء المبتدئون اكتشافها ومنها مثلا روايات تروج للأندلس أو لاستعادة مجد الحضارة الإسلامية بالمنطق القديم القائم على الحرب والسلاح والجهاد وهي روايات تحض على كراهية الآخر ولا ترى المجالات الجديدة للتنافس الإنساني والحضاري مثل مجالات العلوم والمعرفة والبحث العلمي.
بل ترى الحياة كلها من منظور الماضي بسطحيته ومحدودية ثقافته وهذا أمر طبيعي، فهناك فارق كبير بين عصر السيف والرمح والنبال وعصور النووي والحروب المعلوماتية والمخابراتية وحرب العلوم ونشر الأوبئة.
** أنت تجمع بين النقد والإبداع، والبعض يعتقد أن عين الناقد تكن حاضرة لحظة الإبداع فتمنعك من مطبات الكتابة، هل هذا صحيح؟ أم أن النقد يكون عبئا وقيدا؟ اشرح لنا العلاقة بينهما وكيف يتفاعلان ويتجادلان دونما تأثير سلبي؟
أحاول في لحظات الإبداع الروائي والسردي بشكل عام أن أنفصل تماما عن الناقد الذي بداخلي، فالكتابة الإبداعية تحتاج إلى روح متمردة مغامرة ومنطلقة في فضاءات مجهولة أو ترتادها لأول مرة، روح تحلق مع النماذج الإنسانية وتحاول تتبعها ورصدها بعمق، تطارد التجارب والخبرات والمواقف دون تنظير أو فلسفة.
ولذلك فطوال فترات الكتابة أنسى تماما الناقد وأتحرر منه، ولكن في المراجعة أستعيده مرة أخرى وأستعين به في الحذف والتطوير والتعديل وتحضر عين الناقد مرة أخرى فأكون أنا المحرر الأدبي لأعمالي قبل أن أقدمها للنشر.