بعد انتهاء موسم الحج وقبل أيام من عودة حجاج بيت الله الحرام من الأراضى المقدسة، يتفنن المصريون فى توثيق هذه الرحلة المباركة على واجهات منازل الحجاج، حيث تجلب الأسر المختلفة الخطاطين والرسامين، لتزيين الجدران باللوحات التى تتضمن عبارات ترحيبية مثل "حج مبرور وسعى مشكور وذنب مغفور"، بالإضافة إلى رسم صورة للكعبة المشرفة، أو صورة لوسيلة السفر المستخدمة كالطائرة أو جمل أو سفينة، أو صورة لموكب احتفال مدون عليها تاريخ الزيارة واسم الحاج، تلك الحالة المتمثلة فى "لوحات الحج"، تمثل تعايشا ديناميكيا بين الفن الشعبى والدين.
لذلك كشف لنا الفنان والدكتور محمد حمدي، أستاذ التعبير الفنى والتصوير بكلية التربية الفنية جامعة حلوان، فى تصريحات خاصة لـ "البوابة نيوز"، التفاصيل الكاملة لهذا الفن الفطرى، وقال إن من يقوم برسم تلك اللوحات غالبًا خطاط محترف، وتتسم تلك الرسومات بالبساطة الشديدة حيث لا يلتزم بقواعد الرسم، لافتا إلى أن الرسومات شعبية وتنحى ناحية الفنون الفطرية، التى لا تلتزم بقواعد الظل والنور ولا المنظور، حيث يشمل الجمع الزمانى والمكان، وأغلبها من سمات الفن الشعبى، الذى يتميز بجماليات خاصة.
وأضاف "حمدي" أن البعض كان يبدأ فى الرسم على جدران المنازل من قبل رحلة الحج، وكانوا يرسمون الجمل وبعد ذلك السفينة والطائرة، وهناك من يرسم جميع الوسائل معًا، موضحًا أن هناك من يرسم مظاهر الحج فى مكة والمدينة وأحيانا يرسم الكعبة والمسجد الحرام فى مكة، ومنهم من يرسم الحاج وهو يقوم بالطواف حول الكعبة الشريفة، وأحيانا أخرى يرسم احتفال الأهل به.
وأشار الفنان والأكاديمى محمد حمدي، إلى أن مرحلة الرسم على الجدران تبدأ بدهنها بالجير الأبيض، ثم يرسمها بالألوان، لتصبح دفتر ذكريات، وغالبا رسومات الخطاط مصحوبة بكلمات مثل "ألف مبروك يا حاج"، و"حبيبى يا رسول الله ما شاء الله".
وبسؤاله عن المواقف الطريفة التى واجهها قال إن أحد الرسامين روى أنه كان يقوم برسم رسومات عودة حاجة، وكان من المفروض أنه يرسم نقاطا كثيرة حول الكعبة تعبر عن الطواف، فوجئ بزوجها يقول "ارسملى الحاجة وهى تطوف حتى يتمكن المهنئون لها أن يعرفوها من وسط الحجاج المرسومين على الحائط".
وأوضح أن هناك اختلافا بين رسومات الحجيج فى الأرياف عن الصعيد "الأقصر" ، رغم اشتراكهم فى نفس سمات الفن الشعبى، و لكن البيئة تترك أثرا كبيرا عليها، فرسومات الصعيد متأثرة بالمعابد والمصري القديم نظرا لقربهم من المناطق الأثرية، فهناك رسومات على جدران منازل الحجيج مشابهة فى السمات الفنية لرسومات الفراعنة، التى يفصل بينهما آلآف السنين، حيث خرجت أغلب رسومات الحجيج تشابه رسومات المصرى القديم.
وأكد أنه قديما كان الحج مكلفا ويتسم بالخطورة حيث كانوا يذهبون لمكة والمدينة والقدس في قوافل برية تستغرق شهورا ومع خطورة الرحلة، ومن الظواهر المرتبطة بالحج بعض الحيوانات المحنطة أو نجمة البحر أو حدوة حصان، على بيوت أهل الحاج، اعتقادا منهم أن مثل هذه الأشياء تجلب الرزق والحظ، وذلك اعتقادًا منهم أن هذه التعويذة قادرة على حماية الحاج.
وعن حتمية انقراض هذا الفن قال: "للأسف مع التقدم هذا النوع من الفن بدأ فى الاختفاء وخاصة عن أحياء القاهرة، لكن ما زال موجودا فى قرى الصعيد والقرى البعيدة، لأنهم يعتبرونه نوعا من التباهى، وكانت هناك مظاهر كبيرة مثل زفة بالحصان والطبل البلدى والأعلام البيضاء وزعف النخيل، وكانت المرأة الحاجة ترتدى الزى الأبيض رغم أنها غير ملزمة بذلك، وسط الزغاريد وبعض الأغانى المرتبطة بالحج.
وتابع: "هناك بعض التيارات المتشددة تحرم هذه الرسومات وتعتبرها نوعا من أنواع الرياء، ولكن هذا غير صحيح فالإنسان يؤجر على نيته".
واختتم "حمدي" حديثه بأن علاقة مصر والأراضى الحجازية طويلة، وكان الذى يحكم مصر من عصور المماليك وما قبلها كان يسمى أمير المؤمنين وكان يقتسم السلطة مع أمير المؤمنين، وخادم الحرمين الشريفين، والذين اخترعوا وابتكروا هذا اللقب هم الحكام الذين حكموا مصر، وتمت إعادته مرة أخرى عندما كان الشيخ الشعراوي يلتقى ملك السعودية وقال له أنت خادم الحرمين الشريفين، وتمت استعادة اللقب مرة أخرى، ويلقب به أمراء السعودية والمقصود بالحرمين مكة والمدينة لأنهما كانتا تحت السيطرة المصرية وكانت تصنع كسوة الكعبة فى مصر.
كتب وثقت «لوحات الحج»
كتاب أصدره قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بعنوان «لوحات الحج»، تأليف آن باركر وآفون نيل، يتضمن الكتاب أن المصريين غالباً ما يحتفلون بحجاجهم من خلال تكليف أحد الفنانين المحليين بتصويرها على جدران منازلهم، ويعتبر الكتاب أول تسجيل مرئى لثراء وتنوع هذا الفن البدائى على يد المصورة الفوتوغرافية آن باركر والكاتبة آفون نيل اللتين أمضيتا عقداً من الزمان فى استكشاف مجتمعات المدن والقرى والنجوع النائية ووصفاً ملحقاً بها يسجل لوحة للرسامين، الذين صوروا رحلات الحج، وركز الكتاب على رسومات الحج ورسامى الحوائط والرموز التى يستخدمها هؤلاء، وتقول الكاتبة إن أغلب الرسامين يستخدمون «الكعبة فى رسوماتهم مكة، وعرفات ومنى والمدينة والعودة إلى الديار وما بعد الحج».
لوحة عودة الحجاج من مكة
للرسام البريطاني هنري وارن (١٧٩٤-١٨٧٩). رسمت عام ١٨٤٨، كانت معروضة في متحف لندن حتى عام ١٩٧٦، تكشف فيها عددا من الحجاج في واحة يستريحون من وعثاء السفر، وكعادة معظم لوحات الحج للمستشرقين الأجانب، نرى المحمل على الجمل يتوسط اللوحة مع وجود دواب أخرى كوسيلة نقل مثل الحمير والأحصنة.
لوحة حجاج في طريقهم إلى مكة للرسام الفرنسي ليون أوغست أدولف بيلي (١٨٢٧-١٨٧٧)، وهي معروضة في متحف أورسيه في فرنسا. وقد قدمها في صالون ١٨٦١، وحصل بموجبها على ميدالية من الدرجة الأولى بسبب جمال وضخامة العمل.
لوحة وصول المحمل لواحة في طريقه لمكة للرسام جورج إيمانويل أوبيز (١٧٧٥-١٨٤١). وهو مستشرق ألماني رسم اللوحة عام ١٨٠٥. وهي لوحة ضخمة أيضا لا تخلو من الرموز والإيماءات.
"لوحة موكب المحمل فى شوارع القاهرة"
رسمت عام ١٩٠٩، وهي للرسام النمساوي لودفيغ دويتش (١٨٥٥-١٩٣٥)، الذي عرف باهتمامه المفرط بحياة الشرق ولوحاته عن العرب والمسلمين.
البوابة لايت
بعد انتهاء موسم الحج.. الرسم على البيوت يوثق رحلة حجاج بيت الله الحرام
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق