قال الرسول "صلى الله عليه وسلم لـ"علي" رضى الله عنه: {إذا تقرب الناس لخالقهم بأبواب البر فتقرب أنت إليه بالعقل تسبقهم} – من كتاب مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار للإمام الغزالي، وقد تكلم المحدثون في صحته ولكن معناه يتفق مع ما ورد في القرآن. إن الإشارة إلى العقل في القرآن الكريم لا تأتي إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، وذلك ما يؤخذ من كل الآيات القرآنية التي وردت الإشارة فيها إلى العقل، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تكون الإشارة إلى العقل في القرآن في صيغ عديدة، فتارة بلفظ القلب أو الفؤاد، وتارة ثانية في صيغة أفعال بلفظ المفرد أو بلفظ الجمع مثل: يعقلون ـ يفقهون ـ يتفكرون ـ ينظرون ـ يبصرون ـ يعتبرون ـ يتدبرون ـ يعملون ـ يتذكرون، وتارة ثالثة في صيغة أولي الألباب أو أولي الأبصار أو أولي النهى، فقد أراد القرآن أن يعبر بذلك عن الوظائف العقلية التي أراد الله للعقل أن يمارسها في الوجود، ومن هنا قال ابن رشد في كتابه فصل المقال: [إن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها وذلك أخذا من آيات القرآن العديدة في هذا الشأن، وإذا تقرّر هذا كله وكنا نعتقد معشر المسلمين أن شريعتنا هذه الإلهية حق، وأنها التي نبهت على هذه السعادة ودعت إليها، التي هي المعرفة بالله جل وعز وبمخلوقاته وأن ذلك متقررٌ عند كل مسلم من الطريق التي اقتضته جبلَّته وطبيعته من التصديق، وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية، ومنهم من يصدق بالأقوال الخطابية، وذلك أنه لما كانت شريعتنا هذه الإلهية، قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث عمَّ التصديق بها كل إنسان إلا من يجحدها عنادًا بلسانه، وإذا كانت هذه الشرائع حقًا، وداعية إلى النظر المؤدّي إلى معرفة الحق فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له].
ومن منطلق حرص الإسلام على ممارسة العقل لوظائفه كان حرصه شديدًا على إزالة كافة العوائق التي تعوق العقل عن ممارسة نشاطاته، ولهذا طالب الإسلام بتحطيم هذه العوائق ليشق العقل طريقه للفهم الصحيح والتفكير السليم ويتجلى لنا ذلك واضحًا في الأمثلة التالية:
o رفض الاعتماد على الظن والتخمين: وذم اتباعهما فيقول له في سورة يونس آية 36: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا﴾، وهنا يفرق القرآن بين الظن والعلم.
o رفض التبيعية الفكرية والتقليد الأعمى: فالإسلام نهانا عن التقليد الذي فيه تعطيل للعقل عن أداء دوره في الوجود، فالتقليد الأعمى سواء كان للأباء والأسلاف أو للسادة والكبراء لا يصح بحال من الأحوال من الإنسان القادر على التفكير والتمييز ولهذا عاب القرآن على المشركين تقليدهم الأعمى لأعرافهم وتقاليدهم وأسلافهم، وفي ذلك يحكي عنهم في سورة المائدة آية 104 قولهم: ﴿قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾، وتساءل في استنكار: ﴿أَوَ لَوكَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾، وقد حذر النبي أيضًا من التقليد الأعمى: {لا تكونوا إمعة: تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا}.
o القضاء على الدجل والشعوذة والاعتقاد في الخرافات والأوهام وإبطال الكهانة: فلا كهانة في الإسلام وليس هناك مخلوق يتحكم باسم الدين في رقاب العباد، فلا ضرر ولا نفع إلا بإرادة الله، وقد وقف الرسول بحزم في وجه الخرافات والأوهام ومن ذلك أنه عندما مات ابنه إبراهيم تصادف أن كسفت الشمس في ذلك اليوم فقال البعض إن كسوف الشمس في ذلك اليوم هومشاركة في الحزن على موت إبراهيم وقد واجه النبي ذلك بحسم قاطع قائلًا: {إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياة أحد}.
وجملة القول أن القرآن الكريم مصدر أساسي من مصادر الدعوة إلى العقلانية والتفلسف، ولهذا المصدر أثر عميق في الحركات الفكرية والفلسفية التي انتشرت في الإسلام وأسست للفلسفة الإسلامية، وذلك قبل وبعد ترجمة كتب الفلسفة اليونانية والتي أسست للفلسفة الإسلامية، ولذلك صنف علماء ومفكري الإسلام العديد من الكتب التي تحفز المسلمين للتفكير وإعمال العقل، ومنها كتاب العقاد التفكير فريضة إسلامية والذي يقول فيه: (فليس في الإسلام إنسان ينجوبالميلاد، أويهلك بالميلاد، ولكنه الدين الذي يوكل فيه النجاة والهلاك بسعي الإنسان وعمله، ويتولى فيه الإنسان هدايته بفهمه وعقله، ولا يبطل فيه عمل العقل أن الله بكل شيء محيط، فإن خلق العقل للإنسان لا يسلبه القدرة على التفكير، ولا يسلبه تبعة الضلال والتقصير، وعلى هذا النحويتناسق جوهر الإسلام ووصاياه، وتأتي فيه الوصايا المتكررة بالتعقل والتمييز منتظرة مقدرة لا موضع فيها للمصادفة، ولا هي مما يطرد القول فيه متفرقً غير متصل على نسق مرسوم، فإنها لوصايا «منطقية» في دين يفرض المنطق السليم على كل مستمع للخطاب قابل للتعليم، وهكذا يكون الدين الذي تصل العبادة فيه بين الإنسان وربه بغير واسطة ولا محاباة، ويحاسب فيه الإنسان بعمله كما يهديه إليه عقله، ويطلب فيه من العقل أن يبلغ وسعه من الحكمة والرشاد).