صدرت مؤخرا عن منشورات صفصافة، رواية جديدة بعنوان "غواية الفناء.. ما تبقى من سيرة أبناء سرّي الجن"، للكاتبة هالة صلاح الصياد.
تأخذنا الرواية عبر تاريخ طويل متشابك، وتقاطعات زمنية وقدرية، لتحكي لنا عن سيرة آل سرّي، أو بشكل أدق سيرة آل داود الابن الأكبر لسرّي.
في سرد زمني متقطع تتداخل الحكايات منذ الخمسينات وحتى وقتنا الراهن، وبالخلفية هناك مقتطفات من مذكرات سرّي. آلاء -الحفيدة- تحكي لنا تحولات ما جرى، سواء معها أو بالعائلة ككل. عبر الإسكندرية والقاهرة وطريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي، نرى ونسمع ونعايش مع أبطال الرواية حيواتهم الصاخبة، نشهد دورات الزمن العاتية كقارب وسط الأمواج، ظهور أشخاص واختفاء آخرون، والأمور الحياتية التي تبدو اعتيادية؛ حب وزواج وطلاق وهجر وخذلان وموت. وفي وسط هذا كله محاولات داود للحفاظ على ملكيته وشراكته في فندق "متروبول" العريق في قلب الإسكندرية.
هي رواية شخصيات بامتياز، نتورط معهم منذ الصفحات الأولى، في حكي شديد البراعة ولغة سلسة، تأخذنا الكاتبة متنقلة بنا بين الأزمان والشخصيات والأماكن، بأحداث متعاقبة نكاد نلهث ونحن نتتبعها عبر فصول الرواية.
من أجواء الرواية نقرأ:
سبتمبر 1975
سري علي مصطفى محمد سليمان الجِن، بيت داود، الإسكندرية.
متى أضاف داود كل تلك المساحات الشاسعة إلى شقته؟ وأين بالله الحمام! يهرول سري بين جنبات الشقة مزنوقًا لدرجة أنه فكر في قضاء حاجته في ركن المطبخ! ولكنه تحامل واستكمل البحث عن الحمام، وحين وجده أخيرًا دَعس بقدمه الحافية شيء طريّ، لزج وكريه الملمس، ولما ألقى ببصره إليه، رأى قطعة ضخمة من البراز، وإذا به يكتشف أن الممر المفضي إلى المرحاض ملئ بقطع براز متنوعة الحجم والهيئة، وقام من نومه ممتعضًا، مزنوقًا. تطارده تلك الكوابيس كلما داهمه نداء الطبيعة وهو نائم.
وكان البيت خالٍ إلا منه، إذ رفض الذهاب إلى عُرس صغرى شقيقات نعمة، لم تعد به طاقة إلى الخروج من البيت فضلًا عن احتمال إزعاج حفلات الزفاف. وجلس إلى مقعده بالشرفة بعد أن سوى لنفسه كوب الشاي، ملقيًا ببصره إلى صفحة السماء المصبوغة بلون برتقاليّ دافئ بين قمم البنايات، تركته ذيول الشمس الغاربة، وعصافير المغرب تشق صفحة السماء ظلالًا كمثل الموجودات جميعًا، لم تُضأ مصابيح الشارع بعد، والتقطت أذناه صوت خطوات زاحفة بالشارع، فألقى ببصره إلى الطوار المقابل ليرى ظلًا آدميًا يتحرك مضطربًا نحو شق السور الذي سبق ورأى الحاج سليمان يعبر من خلاله، فانتبهت حواسه جميعًا، وحرص ألا يصدر منه صوت يُجفل المتسلل، ولاحظ بين يديه ظلًا صغيرًا يتلوى، وعبر الرجل الشق فغيبه السور عن عيني سري، ومرت دقائق شعر بها عمر حتى خرج الرجل وقد خلت يداه، وما إن حط بقدمه على الرصيف أمام بيت العفاريت، حتى أطلق ساقيه للريح!
وانزعج سري أيما انزعاج، ما جاء بالرجل هنا؟ ولمَ دخل؟ وما الذي تركه في الداخل! آآآه الكنز لم يعد في مأمن، لو ذاع الخبر أن رجالًا يدخلون ثم يخرجون لا يمسهم ضر لصارت الأرض مشاع، ولن يمر وقت طويل إلا ويضع واحد من أولئك الغوغاء يده على كنز الحاج سليمان.
وقد سبق واستدعى داود إلى حضرته بعد أن كشف له الحاج سليمان سره، دفع إليه بالعملة الذهبية المسكوكة عام 1821، تبعًا لما نُقش عليها أسفل صورة الفارس الذي يدوس تنينًا بأعقاب حصانه. فلم يجد منه إلا إنكارًا وخذلانا، ذكره بوقفته القديمة معه عند احتياجه المُلح للنقود من أجل صفقة المتروبول، لقد ضحى بمدخراته لأجله وها هو لا يبالي بكنز جده! الأسوأ كان ما لمحه في عينيّ داود من شفقة، وكأنه لا يرى فيه إلا رجلًا مسنًا داهمته الشيخوخة. حنق عليه وصرفه عنه، وإذ بداود يرجع إليه اليوم التالي، عارض عليه أن يرفع شكوى إلى الحيّ حول القمامة المتراكمة ببيت العفاريت، علهم ينظفونها ثم يتمكن داود من البحث عن الكنز! ولد غبيّ يريد أن يقدم كنز جد أبيه لعمال الحيّ لقمة سهلة، سائغة، نهره بشدة بعد أن أخذ منه قسمًا ألا يفكر مجرد تفكير في التواصل مع الحيّ، وها هو لا يني يراقب البناية من شرفته لا يكل ولا يمل.
لو خرج ذاك الرجل من الأرض سليمًا لم يمسه سوء، فلما لا يجرب هو أيضًا؟ الفرصة سانحة بخلو البيت، وشعر أن الدماء تجري متسارعة في عروقه، وبتلك الطاقة العجيبة تداهمه، فنهض وسحب عصاه من على الجدار عازمًا على المضيّ قدمًا.
وفي تلك الأثناء داخل القاعة البيضاء مرتفعة السقف صدحت الدفوف مُعلنة قرب ظهور العروسين، فجلجلت أم نعمة بـ زغرودة عريضة ممتدة، تبعتها الزغاريد تمتزج مع قرع الدفوف، وفُتحتا درفتيّ باب القاعة المهولتين، المبطنتين من الداخل بالقطيفة الحمراء، وتقدمت ابنتها العروس متأبطة ذراع عريسها، تخطو على سجادة عجمية مزركزشة باللون الأحمر، حاملي الدفوف في زيّ موحد من اللون الـأحمر يصطفون في صفين يمر بينهما العروسين على مهل، وتتقدم البنات الصغيرات في فساتينهم البيضاء القصيرة، يحملن بين أيديهن سلالا من الخوص ممتلئة ببتلات ورود بيضاء، فيمطرون بها العروسين، بينما شقت أم نعمة الصفوف تنثر على العروسين ملحًا.
كان داود قد رحب بسعادة بإقامة عرس صهرته في المتروبول. وقد اتخذ لنفسه مجلسًا بالطاولة الكبيرة التي تتصدر القاعة أمام الكوشة مباشرة، يملأ جسده الضخم كرسيه، أنيقًا داخل حلته الرسمية، وسيمًا وقد تناثرت شعرات بيضاء مختلطة بسواد شعره الكثيف الناعم، مبتسمًا ابتسامته المرحة التي تعكس مزاجًا رائقًا. إلى يساره جلست نعمة وقد عقصت شعرها الأسود الغزير فوق رأسها بمشبكٍ من الألماس كعادتها وفستانها الأرجواني أنيقًا يبرز مفاتنها في غير ابتذال، من يراها لا يصدق أبدًا أن الشاب الجالس على طرف الطاولة، عريض المنكبين، ممتلئ الجسد، وقد نما تحت أنفه شارب شكري سرحان في فيلم البوسطجي، ما هو إلا ابنها البكري صالح. غابت ابتسامة داود وتعكرت ملامحه حين لمح “محمد حسين” المحاسب يتقدم نحو الطاولة متأبطًا ذراع امرأته، ووقف الجالسون يمدون إليهم أيديهم بالتحية، بينما ظل داود جالسًا وقد تبدلت ابتسامته المرحة إلى أخرى صفراء، قال للرجل في شيء من الاستهزاء الخفي:
-عاش من شافك يا حسين، فينك؟
فردت امرأته بدلًا عنه قائلة بفخر:
– مشغول دايمًا، جوزي بقى واحد من كبار رجال الأعمال.
قال داود بتهكم مفضوح:
– والنبي؟ لأ أنعم وأكرم..
وتبادل الرجل مع داود نظرات حادة، وقالت نعمة لتكسر التوتر كي لا يُفسد عرس أختها:
– اتفضلوا اتفضلوا، نورتونا..
وتحركت تدعوهم أن يتبعوها إلى الطاولة المخصصة لهم، فمشوا خلفها بعد أن أومأ الرجل برأسه مبتسمًا لداود ابتسامة صفراء أراد أن يغيظه بها حتى كاد داود أن يبصق من خلفه لولا أن تمالك نفسه!
وأما كرم ومصطفى فقد تمكنا أخيرًا من الزوغان بعيدًا عن قبضة نعمة، فتسللا إلى خارج قاعة الفرح، ثم انطلقا متجولين بين أرجاء المتروبول، كرم طويلًا نحيفًا، يكلل شعره الكثيف رأسه الصغير، ملامحه السمراء وعينيه العميقتين يذكران بصورة أبيه، وإن كان لم يبلغ شيئًا من جسده عرضًا وإمتلاءًا، وأما مصطفى وكان مراهقًا في السادسة عشرة من عمره، فقد استمد معظم جيناته عن عمه تمام، عينين خضراوين يومضان من وجه أسمر كمثل سُمرة أمه، وشعر بنيّ فاتح مائل للصفرة، ولم ينم طويلًا كأخيه وإن كان مثله نحيلًا.
تخرجت الكاتبة هالة صلاح الصياد في كلية الفنون الجميلة عام 2006، حيث تتقاطع أعمالها بين الكتابة السينمائية والأدبية، ومن الجزويت للسينما بالإسكندرية، حيث كتبت وأخرجت الفيلمين القصيرين "شكلها سما" و"درَّة حلوة".
ترشحت هاله بسيناريو "وادي النمل" للقائمة القصيرة من جائزة ساويرس للأفلام الطويلة، وصدرت مجموعتها القصصية الأولى "كل نكهات الآيس كريم" عام 2017، والثانية بعنوان "لا تتخلَ عن أشباحك" في يونيو 2021، والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة ساويرس، فهي خريجة مدرسة ماس بالإسكندرية للفنون المعاصرة، وبرنامج سيلاس للدراسات الإنسانية الحرة، حيث درست الترجمة في الأخيرة، وقد انتهت من كتابة روايتها الأولى "مَخْرَج للطوارئ" وحصلت روايتها الثانية على منحة تفرغ للكتابة من مفردات، وهي قيد الكتابة في الوقت الحالي.