ما زالت الأحداث فى روسيا غامضة أو كما يقول السير ونستون تشرشل «روسيا لغز يكتنفه الغموض داخل لغز» ودون العودة إلى الأحداث التى تناقلتها وسائل الإعلام والتى أدت إلى الاستيلاء على مقر الجيش الروسى (فى جنوب غرب روسيا)، مركز العمليات فى أوكرانيا وإلى تقدم مجموعة فاجنرالي٤٠٠ كيلومتر من موسكو فوجئ المراقبون للأحداث بتحول مفاجئ فى موقف زعيمهم إفجينى بريجوين. وكان يفجينى قد تحدى بشكل مباشر الرئيس فلاديمير بوتين وطالب بالقبض على رئيسى وزير الدفاع سيرجى شويجو ورئيس الأركان فاليرى جيراسيموف المتهمين بالتضحية بعشرات الآلاف من الرجال فى أوكرانيا دون داعٍ. ربما تكون أيام هذين الجنرالاين معدودة كما يقول المراقبون، لكن المشكلة هى أن بوتين لا يأخذ قراراته حسبما يأمل الغرب...
كان بريجوجين قد وعد «بتحرير الشعب الروسى» لكنه تراجع فى النهاية من أجل تجنب إراقة «الدماء الروسية» كما يقول. ومع ذلك، لم ينج طاقمان على الأقل من الطائرات الروسية التى أسقطها رجاله.
وفقًا للاتفاق الذى تم التوصل إليه يجب أن يغادر بريجوجين إلى بيلاروسيا وسيتم إسقاط التهم الموجهة إليه. وقد رحب ديمترى بيسكوف المتحدث باسم الكرملين مساء ٢٤ يونيو بالمصالحة دون خسائر جديدة ذلك أنه: «من المصلحة الفضلى تجنب حمام دم» وقد قام الرئيس البيلاروسى ألكسندر لوكاشينكو بدور الوسيط لحل هذه الأزمة...
بينما أعلن مستشار الرئاسة الأوكرانية، ميخايلو بودولاك أن بريجوجين قد أهان بوتين وأظهر أنه لم يعد هناك احتكار للعنف».
تراقب الحكومات الغربية الأحداث عن كثب وقد أعلنت صحيفة واشنطن بوست ونيويورك تايمز أن حذرت المخابرات الأمريكية والبيت الأبيض من انتفاضة فاجنر الوشيكة فى روسيا قبل يوم من اندلاعها.
العواقب
على الرغم من أن هذه الأزمة كانت استثنائية بقدر ما كانت قصيرة العمر إلا أنها لن تكون بدون عواقب لموسكو وفاجنر وقائدها؛ فقد نشر روب لى الباحث فى معهد أبحاث السياسة الخارجية فى الولايات المتحدة نشر تغريدة: «من المحتمل أن يحاول بوتين والأجهزة الأمنية إضعاف فاجنر أو محو بريجوجين إلا أن التأثيرات الأكبر ستظهر فى الشرق الأوسط وأفريقيا حيث الحضور الأكبر لفاجنر». وقد أعلن الكرملين أنه لن تتم محاكمة أى من مقاتلى مجموعة فاجنر بتهمة الانقلاب ذلك أن هذه المجموعة تلعب دورًا رئيسيًا إلى جانب الجيش الروسى فى أوكرانيا. وعلى ذلك يتعين إعادة دمج جميع المرتزقة فى الجيش الروسى والانضمام إلى الجبهة فى أوكرانيا.
تحليل
رغم كل هذه الألغاز إلا أنه يجدر ألا نغفل عن بعض البديهيات ومن المستحيل ألا يتم تحذير بوتين مسبقًا بما سيحدث. حتى الأمريكيون (وبالتالى الأوكرانيون) كانوا على علم أن التمرد كان فى طور الإعداد. فمن المؤكد أن شركة فاجنر مخترقة من قبل أجهزة المخابرات الروسية الرئيسية FSB وGRU. ويبدو أن نظريات التلاعب (ماسكيروفكا) التى وضعها الكرملين لخداع الأوكرانيين – وللكشف عن المنشقين المحتملين فى روسيا - يبدو أنها مبالغ فيها لأن بوتين خرج من هذه المحنة وقد تضاءلت صورته إلى حد كبير. كما أن الجيش الأوكرانى لم يستغل ضعف روسيا ويعلن عن «اختراق حاسم» ربما يفشل أو ربما حذرت واشنطن كييف من أى خطوة غير مدروسة.
إلى جانب يأس بريجوجين الكبير فلم نجد أى شخصية روسية تنحاز إلى «الثورة» (كما كان الحال خلال عام ١٩٩١) باستثناء عدد قليل من الأثرياء الذين ذهبوا «فى إجازة» إلى الخارج لانتظار ما ستسفر عنه الأحداث، لذلك وجد بريجوجين نفسه وحيدًا. بالنسبة لصورة منشورة فهى تظهر بريجوجين فى ساحة الأركان العسكرية الروسية فى روستوف بصحبة نائب وزير الدفاع (العقيد الجنرال باماتغيرييفيتش يفكوروف على اليسار فى الصورة (١) ونائب مدير GRU (الفريق فلاديمير الكسييف). فى وقت إطلاق النار حتى لو بدا أن الرجال الثلاثة يشربون القهوة بهدوء، فإن وضع الضابطين العامين غير معروف؟ من الصعب التنبؤ بالأحداث ذلك أن المسئولين الروس لا يتخذون قراراتهم وفقا للمنطق، وبالتالى كل شيء ممكن ومتوقع وأن بريجوجين وحده هو المسئول عن أقواله وكذلك بوتين خاصة أن خادمه السابق أصبح مزعجًا للغاية ويعرف الكثير من الأشياء التى يسعد الغربيون بسماعها (لديهم الإمكانيات المالية والذكاء اللازمين للاختراق والتجسس أو التسلل، كما أن اللوبى العسكرى الصناعى الروسى الذى لا يزال يدعم شويجو وجيراسيموف لديه أيضا ما يقوله.
أما بالنسبة لفيكتور بوت مهرب الأسلحة الذى التقى به بريجوجين فى ١٣ يونيو وجعله مسئولًا عن «مقر» فاجنر فى سانت بطرسبرج فإن مصيره غير معلوم.. ومن الممكن أن يعيد فاجنر تمركزه فى سوريا وأفريقيا (فى ليبيا والسودان وموزمبيق ومالى، وكذلك جمهورية أفريقيا الوسطى) مع رقابة أكبر من الدولة الروسية لأن الموظفين يجب أن يكونوا الآن «مسجلين».. وبالنسبة لمصيرهم الشخصي؛ فلا يمكن لبريجوجين ولا بوتين أن ينعما بنوم هادئ؛ فالحرس الشخصى يقوم بإنقلاب!
معلومات عن الكاتب:
آلان رودييه.. ضابط سابق، يشغل منصب مدير الأبحاث فى المركز الفرنسى لأبحاث الذكاء (CF2R) منذ عام 2001، له العديد من المقالات والتقارير والكتب حول الجغرافيا السياسية والإرهاب والجريمة المنظمة.. يتناول محاولة الانقلاب الفاشل الذى خطط له زعيم مجموعة فاجنر.