السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

طارق حجّى يكتب: عقلية الإسلاميين تحت المجهر.. العقل ذو البعد الواحد لا يمكن أن يسمح بانطلاقة الإبداع فى شتى المجالات

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

خلال نصف القرن الأخير والذى ارتبطت أثناءه حياتى وتجاربى وأفكارى ومعاملاتى بكل ألوأن الطيف الثقافى إتضح لى بجلاء وجه من أوجه الخلل الكبرى فى بنية التكوين المعرفي/ الثقافى للغالبية العظمى من قادة تيارات الإسلام السياسى، سواء القيادات العليا أو الوسطى أو الدنيا. ولإلقاء الضوء على هذا الخلل الجسيم فإنه يلزم أن أوضح ماهية التكوين المعرفى العصرى المتوازن قبل أن أتطرق للتكوين المعرفى غير المتوازن.
فالمفترض فى التكوين المعرفى العصرى المتوازن أن تكون ضمن بنيته رقائقٌ من إبداعاتِ الفكر الإنسانى فى شتى ميادين المعرفة، القديمة والمعاصرة، فالمثقفُ العصرى هو من مر عقلُه بكل ميادين ومجالات المواضيع التالية: التاريخ العام للبشرية والفكر السياسى والفلسفة وعلم النفس والآداب والفنون القديمة والحديثة وعلم الاجتماع وعلوم الإدارة الحديثة.. وغيرها.
وقد يكون (وقد لا يكون) هذا بمحاذاة مجالات محددة للتخصص سواء فى مجال العلوم التطبيقية أو فى مجال العلوم الاجتماعية والإنسانىة. وعلى ضوء ذلك، فإنه لا يتصور أن يكون التكوين المعرفى لشخصية قيادية فى مجتمع معاصر خاليًا من المعرفة (على سبيل المثال) بإنجازات الحضارات المصرية والبابلية والأشورية واليونأنية القديمة أو أن يكون خاليًا من التعرف على إنجازات الابداع الإنسانى خلال عصر النهضة أو لا يكون عارفًا بالدور التاريخى الذى قام به التنوريون الفرنسيون أمثال فولتير وديدرو وروسو ومونتسكيو فى التمهيد لقيام النظم والمؤسسات السياسية والدستورية المعاصرة فى المجتمعات المتمدنة.
كذلك لا يمكن تصور خلو الوعاء المعرفى لأى من هؤلاء من ثمار الإبداع الإنسانى فى سائر مجالات العلوم التطبيقة والاجتماعية والإنسانية خلال القرنين الماضيين. ومن غير المقصود أن يكون التكوين المعرفى للقيادى المعاصر مماثلًا لتكوين المتخصص فى هذه المجالات التى أشرت لمعظمها. وإنما المقصود أن يكون قد ألم إلمامًا كافيًا بمسيرة المعرفة الإنسانىة فى العصور القديمة والحديثة.
وقد دلتنى تجربة خمسة عقود من التعامل وثيق الصلة بعقلية قيادات التيارات الإسلامية أنها (فى الغالب الأعم) عقلياتٌ ذات تكوين أحادى البعد. فهم قد طالعوا الكثير أو القليل من أدبيات الدراسات الاسلامية فى شتى المناحى. ولكن تكوينهم المعرفى خلى من التوازن الذى أوضحته من قبل.
فقادة هذه التيارات والأدبيات التى كونتهم، كلاهما يظهر بجلاء ظاهرة التكوين المعرفى الذى وصفته بأنه ذو بعدٍ واحدٍ. فهم ملمون (بدرجات متباينة) بالدراسات القرأنية ودراسات السيرة والفقه. وهم يعرفون (بدرجات متفاوتة) أمهات الكتب فى هذه المجالات. ولكن السواد الاعظم منهم يخلو تكوينه (بشكل شبه كلىِّ) من العناصر المعرفية التى تكون ذهنية المثقف المعاصر. بل، وقد أظهرت تجربتى فى معرفة المئات منهم أن هناك «توجه استراتيجى» داخل جماعات الإسلام السياسى تحض على «عدم تشويش!!» أذهان وعقول أتباعها بكتابات غير إسلامية.


وقد سمعت من جل الإسلاميين الذين تعاملت أو تحدثت معهم أن منع اتباعهم من قراءة آثار مثل الفلسفة والآداب اليونانية القديمة، وكتابات عصر التنويريين الذى مهد للثورة الفرنسية، والاعمال الفلسفية لفلاسفة البشرية من القرن الخامس قبل الميلاد لوقتنا الراهن إنما هو «سياسة من السياسات الأساس» فى تكوين القادة والدعاة الإسلاميين. وأنصح القارئ بمطالعة ما كتبه قائد إخوانى منشق هو ثروت الخرباوى عن هذه السياسة الإخوانية. 
أكبر وأوضح نتائج خلو التكوين المعرفى لمعظم الإسلاميين من وجود رقائق تمثل سائر طبقات رحلة المعرفة الإنسانية، كون معظم الإسلاميين لا يمّيزون بين «الحقيقة الدينية» و«الحقيقة العلمية». فالحقيقة الدينية هى ما لا سند له إلاَّ النص الدينى الذى تنبثق عنه تلك الحقيقة الدينية. وأما الحقيقة العلمية فهى منذ اتفاق البشرية المتقدمة على تعريفها الذى صاغه الفيلسوف أوجست كونت (مؤسس المدرسة الوضعية) فهى التى تختلف عن الحقيقة الدينية من حيث قابليتها للاثبات بطرائق الإثبات الوضعية (العلمية).
وبينما يبقى للحقيقة الدينية احترامها ممن يؤمن بالنص المؤسس لها ومن سواه، على أن تبقى فى مجال الاعتقاد الشخصى فقط. فإن الحقيقة العلمية تخضع لقواعد الاثبات العلمى كما تخضع حتى بعد اثباتها للنقد. ومن نتائج التكوين المعرفى ذى البعد الواحد، وكذلك عدم التفرقة بحسم بين «الحقيقة الدينية» و«الحقيقة العلمية»، «الاستاتيكية الأبدية» لمواقف الإسلاميين من عدد كبير من القضايا مثل: المرأة، الفنون، حرية التعبير الفكرى والأدبى والفنى، الآخر الدينى.. إلخ.
فلا يوجد قائد إسلامى واحد يمكن أن يعتبر فنًا مثل الباليه شكلًا مسموحًا به من أشكال الفنون. ولا يوجد قائد إسلامى واحد يعترف بحق أى إنسان فى مجتمعه أن يكون بوذيًا أو بهائيًا.. ولا يوجد قائد اسلامى واحد يبيح الموسيقى والغناء والتمثيل والتصوير (الرسم) والنحت بدون أن يحيط «الإباحة» بشروط تزهق روح الفن والإبداع. بل ولا يوجد أى اختلاف بين قادة الإسلاميين حول أشخاص مثل الشيخ عمر عبد الرحمن أو خالد الإسلامبولى وغيرهما.
ولا أعتقد أنه سيكون بوسعنا الحديث عن «عقل مسلم معتدل» قبل حدوث صدمة لتيارات الاسلام السياسى تشبه الصدمة التى واجهتها الكنيسة المسيحية فى أوروبا خلال القرون التى تلت عصر النهضة والتى شهدت جهود التنويريين لنشر الأنساق القيمية للحضارة الإنسانية الرائعة التى بدأت شموسها تنير الكرة الأرضية بعد إلجام أصحاب التكوين المعرفى غير المتوازن ومنعهم من تسيير المجتمعات.
وهم أصحاب عقليات لا يمكن أن تعرف طرائق الصواب لأنها مكونة معرفيًا تكوينًا شائهًا ناقصًا ذا بعد واحد لا غير فى مواجهة واقع جديد تحتاج معضلاته ومشكلاته وكل أموره لكوادر بشرية ذات تكوين معرفى يتسم بالتوازن والتعددية ومعرفة حقائق الحياة العصرية والانطلاق من أحدث علوم العصر التطبيقية والاجتماعية. 
ومعلوم لكل دارس للتاريخ الأوروبى أن اللحظة التى أُجبر فيها أصحابَ العقول ذات البعد الواحد على الابتعاد كلية عن إدارة المجتمع هى ذات اللحظة التى انطلق فيها العقل الإبداعى فى سائر المجتمعات الأوروبية ليقدم للبشرية خلال أربعة قرون فقط من التقدم والإنجازات العلمية وتحسين نوعية الحياة الإنسانية أكثر مما أنجزتُه البشرية طيلة عشرات القرون التى سبقت تلك اللحظة الفارقة فى تاريخ الإنسانىة. فالعقل ذو البعد الواحد لا يمكن أن يسمح بانطلاقة الإبداع فى شتى المجالات إذ أنه مشغول على الدوام بأمور شديدة التخلف والانحطاط العقلى.
ولا أعرف هل نكتة تدعو للضحك أم مأساة تحض على حزن كبير أن أذكر فى خاتمة هذا المقال ما كان يكرره «كبير الدعاة المصريين» وهو قوله: منذ أربعين سنة لم أقرأ أى كتاب بإستثناء كتاب الله!.