تناولنا فى المقالين السابقين، المبدأ الأول وهو أن السيادة متبادلة بين الدول، والمبدأ الثانى وهو أنه لا معنى للقيم العالمية إلا بجعلها تنبع من ثقافة كل أمة.. وأسهبنا فى الشرح والتوضيح، وننتقل إلى الحديث عن المبدأ الثالث من المبادئ الثلاثة للجغرافيا السياسية السيادية.
المبدأ الثالث
فى الحقيقة تعتبر النظرة التى يطلقها البعض إلى مكيافيلى على أنه أستاذ للسخرية هى نظرة خاطئة ذلك أنه أحد أعظم الفلاسفة السياسيين الأخلاقيين بالمعنى الحقيقي؛ فهو الذى أخبرنا أن أى تحليل جيوسياسى يبدأ بالنظر إلى لعبة المصالح وفى الحقيقة، النظرة الأخلاقية الحقيقية لا تكمن فى الاعتقاد بأننا فوق هذه الألعاب بل تكمن فى البدء بالتعرف عليها فى أنفسنا والاعتراف بنقائصنا واعتبار أنها التروس الحقيقية لأى موقف دولى مهما كانت الذرائع الأخلاقية التى ترتديها.. الواقعية والتواضع. وبمجرد قبول هذا والاعتراف به أصبح من الضرورى حماية ما يمكن حمايته من المبادئ الأخلاقية الأساسية ولكن بشكل واقعى بحيث تظل متوافقة مع لعبة المصالح التى تهم كل أمة.
ولأننى أنتمى إلى المعسكر المحافظ فقد يعتقد البعض أننى أنتمى إلى الجغرافيا السياسية الأمريكية التابعة للمحافظين الجدد التى بدأت فى الثمانينيات والتى لا تزال تعمل كإطار للتدخل الأمريكى الحالى وفى الواقع، المحافظون الجدد هم عكس المحافظين الحقيقيين.. يتمثل الفكر المحافظ فى السياسة فى الحذر من الرؤى العظيمة وإعادة التشكيل الجذرى والغد المشرق سواء كان هذا الفكر نابعا من السوفييت أو السوق الحرة أو الديمقراطية المنتصرة.
التصورات الكبرى حتى لو كانت طيبة تنطوى عن خطأ كبير ذلك أنها تعتقد أنها تستوعب روح التاريخ. وقد عرفنا منذ بوبر أن هذا هو أضمن طريق إلى الشمولية. كما أن المحافظين الجدد الذين هم فى قطيعة تامة مع التقاليد الواقعية لأمريكا وضعوا تصورا لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بأكمله وفقًا لـ «تصميم كبير» وهم بذلك يذكرونا بالسوفييت الواثقين تمامًا من أفكارهم والمصرين على تنفيذها.
لقد سار الديمقراطيون التقدميون على خطى المحافظون الجدد ونقلوا فكرهم بل وضخموه وأصبحوا كالأبواق الصاخبة التى تعلن عن مستقبل رائع وتفتح الباب لجميع المواقف الأخلاقية. وهم بهذا النهج لا يرضون إلا اليسار الأمريكى ثم «المثقفين» الفرنسيين. لم يسبق للخطاب الهادئ عن حقوق الإنسان أن يقترن بهذا الشكل العدوانى الذى يسحق الرجال والشعوب على مذبح المواقف الأخلاقية.
السياسة الجيوسياسية للسيادة.. صوت جديد يود الناس سماعه
فى الختام فإن مراعاة المبادئ الثلاثة للسيادة الإنسانية كان من شأنه تجنب معظم المآسى الأخيرة فى الشرق الأوسط: المبدأ الأول المتمثل فى الاعتراف بسيادة كل بلد كان سيمنع إثارة معظم التدخلات التى كانت فى ضارة. كما كان سيمنع الدعم الفاحش للولايات المتحدة لمحمد مرسى فى مصر وهو أخطر خطأ أخلاقى وسياسى فى العقود الأخيرة، وكشف عن حقيقة الالتزامات"الإنسانية"لأمريكا. إننا لم نستطع حتى اليوم أن نقدر القيمة الحقيقية لتولى زعيم فى مكانة السيسى قيادة مصر.
أما المبدأ الثانى فمن شأنه أن يسمح للتدخلات القليلة الضرورية بإعادة بناء حقيقية للبلد المحتل مع الاحترام الكامل لثقافته وشعبه.
كان من الممكن أن يكون للمبدأ الثالث تأثير مفيد عالميا وبشكل أكبر، لإزالة الخوف من الخطاب الأخلاقى الكاذب عن العالم بأسره. لقد وصلنا إلى مرحلة بمجرد أن يسمع المرء عن حقوق الإنسان والقيم الإنسانية فإنه يتوقع تدخلات عنيفة وغير مشروعة لبث الفوضى. وفى الواقع، المبدأ الثالث كان سيحول الأزمة الروسية الأوكرانية فى اتجاه مختلف؛ فبدلًا من الخطاب البطيء وغير المجدى والمتمثل فى صراع الخير ضد الشر كان من الممكن أن نصل إلى حل سلمى للطرفين المتحاربين.
وحقيقة، أحب أمريكا القديمة التى ينتمى لها جورج واشنطن وآباء فيلادلفيا ومعجب بتجاربها وبراجماتيتها.. واشنطن هو رجل ترك الرئاسة فى شيخوخته لأنه رأى أن نفوذه على الآخرين قد يقتل الديمقراطية وابتعاد المرء من السلطة لهذا السبب أكبر دليل على قيمة هذا الرجل.
وذات يوم أعلن الفيلسوف الألمانى أوزوالد شبنجلر أن أمريكا جبانة وقد كان هذا الإعلان مثير لدرجة أن البعض رآه غير عادل والبعض رآه واقعى وحقيقي؛ فأمريكا القديمة التى أحبها تجعل حكم شبنجلر مبالغًا فيه وغير شرعى. لكن الجانب المظلم للولايات المتحدة الأمريكية يجعلنا نقدر النظرة الحادة للفيلسوف الألمانى الذى قال «الولايات المتحدة هى الدولة الوحيدة التى انتقلت مباشرة من البربرية إلى الهبوط للهاوية دون المرور بالحضارة».. ليت أمريكا القديمة التى أحبها تصحح الوضع وتعيد اكتشاف روح آباء فيلادلفيا وإلا فإنهم سيجعلون حكم سبنجلر صحيحًا بنسبة ١٠٠٪.
إن فرنسا لديها أصول تاريخية للشروع فى هذا النهج لخلق خطاب جديد مسموع خطاب متواضع ولكنه حازم،خطاب صادق ومحترم للشعوب وثقافتها.. السيادة هى نزعة إنسانية لأنها تحذر من المثالية المجردة؛ فهى تقدر الرجال وتحترم المسار الذى يسلكه كل منهم وتقدر ماهو الأفضل فى كل ثقافة.
معلومات عن الكاتب:
مارك رامو مهندس ومدير مشروع فى شركة صناعية فرنسية كبرى.. فى كتابه الأخير «السيادية هى الإنسانية» يتحدى التصورات المعتادة للأمة والثقافة والسياسة بينما يعيد تعريف الهوية ويلقى نظرة جديدة على العالم.. يواصل مارك رامو فى الجزء الثالث تقديم تعريف غير مسبوق لما يجب أن تكون عليه الجغرافيا السياسية السيادية.