عيد الأضحي يعتبر من أهم الأحداث التي تمر علينا كل عام، ولم يغفل الادباء والمثقفون أن يتحدثوا عن الأعياد سواء في مقالاتهم أو كتبهم أو حتى في وصفهم للأحداث التي تجري فيه من خلال الروايات أو القصص التي يسردوها وكذلك الشعراء لم يغفلوا عن ذكره في قصائدهم.
ودائما يحب القرّاء والجماهير أن يعرفوا عن كل مناسبة كيف يصفها الأدباء وشعورهم تجاهها، وما يميز عيد الأضحي أنه يجمع اكثر من حدث في آن واحد، ففيه تقام الاضاحي وهو يوم العيد إلى جانب ذلك فيه يؤدي المسلمين مناسك الحج ، الأمر الذي يجعل الجماهير تسعى لتبحث في الأدب عن الصورة الجمالية التي قدمها الادباء في وصف ذلك الأيام.
ويصف الأديب محمد حسين هيكل رحلته إلى الحج في كتابه في منزل الوحي: “حين إتجه تفكيري إلى الحجاز لأداء مناسك الحج جعلت أصور لنفسي ما أنا ملاقيه في هذه المناسك وما أنا مشاهده في البلد الحرام ، فسرعان ما ملأ تفكيري هيبة ورهبة ، فقد عُدت بذاكرتي إلى حجة الوداع وتخيلت أمامي النبي محمد صلى الله عليه وسلم فطأطأت رأسي لهول هذا المشهد اجلالا وإكبارا، لكن ما أعظم الفرق بين ما كان يومئذ وما نحن عليه اليوم، المسلمين كانوا يتحرقون شوقا إلى أداء الفريضة وهم لا يعلمون متى كتب لهم أن يؤدوها مع رسول الله، فلما أذن مؤذنه في الناس بالحج أقبلوا إليه من كل فج وهرعوا من كل حدب ينسلون”.
ويحكي هيكل أن هذا المشهد الذي يملأ النفس رهبة للقلب وإيمانا ارتسم أمامه ورأى نفسه مقبلا على مثله في ألوف قد اجتمعوا من أقاصي الأرض ، لا من جزيرة العرب وحدها لأداء الفريضة التي اجتمع إليها الأولون الذين اتبعوا فازدادات في نفسه لهذا اليوم الذي يقف فيه مهابة واكبارا حتى بلغت مهابته انه لم يبقى في نفسه موضع لشيء سواه، فأي مشهد أدعي إلى المهابة الصادقة من هذه الصحيحة المنبعثة من أعماق القلوب تنفرج عنها شفاه عشرات الألوف من الواقفين بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة .
وصف هيكل وقفة عرفة يوم أن ذهب الى الحج بأنها كانت مليئة بالأحداث الكثيرة التي صادفته وقتئذ فمع انتهاء الخطبة في وقت كان الجميع فرحين بما هم فيه من جمال مغتبطين بصحو الجو وجمال الهواء إذ فجأة هبت الريح عاصفة وثار النقع وتعالى الغبار في الجو وخطف البرق وهزم الرعد وبلغ من شدة ذلك أن نسي الناس أهبتهم وتفكيرهم واتجهوا الى مضارب الخيام يرون ما الريح صانعة بها فاقتلعت الريح بعضا من الخيام، ولكن مع ما كنا والناس فيه من شدة لم تزل القلوب غبطتها ولا برح الافئدة ابتهاجها بل بقيت ابتسامة الرضا تطوق ثغور اصحابي وبقيت ضاحك السن أرى فيما حولي بعض ما رآه الرسول في خسوف الشمس يوم موت ابنه إبراهيم، فيجب علينا أن نرى في هذه الآيات مظهر قوته وتوجهنا لله سبحانه وتعالى وتعالت أسماؤه بالإبتهال والدعاء إكبار وإعظاما وخضوعا وإسلاما، فاطلقنا نلبي ونكبر وإنا لكذلك إذ تفتحت أبواب السماء بماء منهمر وأقمنا زمنا نرجو أن ينقطع المطر، بعد ان زال ما آثارته الريح من غبار ونحن في مثل ما كنا فيه من رضا النفس وضحك السن ، فلما هدأ ثم انقطع عاد الناس إلى خيامهم المطوية السويعات المتبقية على إنحدارهم لمزدلفة ومن ثم إلى منى وهنا بقيت هنية مستجما أمد بصري تارة من خصاص بابها إلى ضوء القمر المنبسط على الرمال وأغمض اجفاني طورا فأسعد بالنسيم الرقيق العذب الذي خلف العاصفة ، فأنعش ذلك نفوسنا وازدادنا طمأنينة ورضا وعدت أفكر فيما كنا عليه وفي رضانا عنه واغتباطنا به ولو كنا في غير هذه الحال لثأر سخطنا عليه و لفررنا من ثورة الطبيعة مولين الدبار لا تعقب.
وتابع هيكل: ابتسمت لهذه الموازنة بين حالين نفسيتين ما ابعد المقارنة بينهما ، وسألت نفسي ما سبب تباينهما ؟ وأيهما ادنى إلى الحكمة وإلى موجب العقل ، والسبب في تباينهما واضح فنحن اليوم تجردنا من الحياة وزينتها وفي نوجهنا إلى الله تسمو أرواحنا وليس لنا اليوم ونحن في احرامنا ما نخافه من ثورة الطبيعة وظاهرتها فلن تحول هذه الثورة دون مصلحة من مصالحنا ونحن لا نفكر فيها ولن يصيبنا منها اذى لأن حياتنا اليوم روحية سامية فوق المادة واعتبارها ، ولو أننا سمونا أبدا بالروح فوق المادة لما ابتأسنا لشيء ولكن أبدا من الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس إنما نبتئس ونضيق ذرعا بثورة الطبيعة حين تخضع أرواحنا لمظاهر الحياة التي تتأثر بهذه الثورة وحين نجعل سعادتنا وشقاءنا ونعيمنا وبؤسنا رهنا بهذه الظواهر المحيطة بنا غير مستمدة من دخيلة نفوسنا واعماق أرواحنا ، ولو أنا ملبسنا في مثل بساطة الاحرام لا خشينا على هندامنا ولا على صحتنا ونحن نخاف الزوابع أن تحول بيننا وبين مواعيد ضربناها لقضاء مصالحنا ولو لم نكن أسرى في هذه المصالح إلى حد الخزف عليها دون الخوف من الموت لوجدنا في ثورة الطبيعة متاعا نفسيا يعدل هذه المنافع أو يزيد عليها.
ويذكر هيكل أنه دار حوار بينه وبين من معه في الحج حول الحكمة من فرض الحج ومناسكه فالبعض يرى أن الحج ومناسكه أمور تعبدية تغيب عنا حكمتها ولا سبيل للعقل إلى فهمها والمسلمون يتمنونها ، لأنها فرض فرضه الله عليهم ، فما عرفات وما المشعر وما الجمرات إلا أماكن كغيرها جعلها الله للمسلمين مناسك لحكمة لا يعلمها إلا هو ويجب أن نؤمن بها وإن لم نفهم شيئا عن حقيقتها وسرها ، أما البعض الآخر فيرى أن الحج وسيلة تهوى بها أفئدة من الناس إلى وادينا الذي لا زرع فيه تلك حكمة الله وآية ذلك ما جعل على من عجز عن أدائه أيا من مناسك الحج من فدية الدم ليطعم الفقراء مما رزق الله الناس من بهيمة الانعام ، بينما يرى آخرون أن الحكمة من الحج هو اجتماع المسلمين وتعارفهم وتعاونهم ليشدوا منافع لهم ومن يلبي دعوة التعرف جدير بأن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه لأنه آثر أخوة المؤمنين على نفسه وطمأنينتها ، وأنك لترى العجب فالجميع من الحجاج يصعدون إلى عرفات كل عام وهم يغشونه في غير أشهر الحج فلا يرون منه إلا السطح الأجرد لسلاسل الجبال القريبة منهم بمكة ويرون هذا السطح صفصفا ليس يعمره إلا بعض البدو في أوبارهم ولطول ما ترددوا عليه اختلطت صورته المادية بالمعنى الروحي السامي لفريضة الحج وذلك شأنهم في ادراك المناسك بمنى ومزدلفة ، وإذا ما اختلطت الصورة المادية لموضع ما بالمعنى الروحي لاية فكرة سامية تتصل به ، وطغت الصورة على المعنى إلا أن يكون المؤمن به بالغا من الإيمان غايته أو كان من المهذبين المثقفين الذين يستطيعون التفريق الدقيق بين مظاهر المادة الدائمة المختلفة الأطوار وبين الروح المتصل الخالد الذي لا تحده المادة ولا يعرف حدود للزمان ولا المكان.