منذ أن رفع نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام - قواعد البيت الحرام في مكة المكرمة، استن البشر على عمل كسوتها بأجمل ما يستطيعون.
وذكر الطبري في كتابه الشهير "تاريخ الملوك والأمم" أن نبي الله إبراهيم كان أول من أتى بالكسوة؛ ثم جاء أسعد أبو كرب ملك حمير وكان هو أول من كسا الكعبة تاريخيًا، حيث جعل لها بابًا وكساها ثوبًا من الأديم (الجلد) البني الفاتح وذلك في القرن الرابع الميلادي تقريبًا.
وقبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم- روت لنا النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت عن شكل كسوة الكعبة قبل بعثته -صلى الله عليه وسلم- فقالت «رأيت على الكعبة قبل أن ألد زيدًا وأنا به نسوء (حامل) ما طرف خز خضراء وضفراء وكرارًا وأكسية من أكسية الأعراب وشقاق شعر» والمطارف الخز هي القطع من الحرير، وكانت بألوان مختلفة، وقد عد المؤرخون النوار بنت مالك ممن كست الكعبة قبل الإسلام.
وقال عمر بن الحكم «نذرت أمي بدنة (بقرة) تنحرها عند البيت، وبعد أن نحرت الكعبة سترت الكعبة بالجلد بعد أن خلا من الشعر والوبر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم آنذالك في مكة ولم يهاجر بعد»
وسجلت نتيلة بنت جناب أم العباس بن عبدالمطلب السبق كونها أول عربية كست البيت الحرام بالديباج والحرير وأصناف الكسوة المختلفة، وتذكر المراجع أن نتيلة عندما أنجبت العباس بن عبد المطلب وشب قليلًا، ضاع وفقدته وهو دون سن التمييز، فنذرت إن هي وجدته أن تكسو الكعبة فوجدته ففعلت نذرها، لذا فتعد نتيلة هي المرأة الوحيدة التي كست الكعبة كاملة، وكانت كسوة الكعبة من الأمور العسيرة على قريش لعدم توافر الأكسية بحجم كبير، وبكميات وافرة، فلم تكن مكة من الأماكن التي تكثر فيها الكسوة، فكانت الكسوة تجلب من اليمن في رحلات الشتاء والصيف.
الكسوة بعد الإسلام
كانت كسوة الكعبة متعددة الألوان، ذلك أن الأغنياء كانوا يهدون للكعبة الأكسية تغطي بعضًا منها، فيوضع عليها أكثر من كساء، ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة أبقى على كسوة قريش، حتى جاءت امرأة ذات يوم تطوف بالبيت وفي يدها مبخرة، فاحترقت كسوة قريش، فكساها الرسول -صلى الله عليه وسلم- الثياب اليمانية وهي ثياب مخططة بيضاء وحمراء.
ومع بداية عصر الخلافة الراشدة، ألبس الخليفتان أبو بكر الصديق والفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- الكعبة ثيابًا بيضاء تسمى "القباطي"، وهي عبارة عن كسوة بيضاء رقيقة كانت تُصنع في مصر. كما كسا عبد الله بن الزبير -رضي الله- عنه الكعبة المشرفة عام 64هـ 683م، بالديباج الأحمر.
وفي أيام الخلافة العباسية كُسيت باللون الأبيض، وقال الفاكهي المتوفي عام 722هـ / 885م «رأيت كسوة لهارون الرشيد من قباطي مصر (أبيض رقيق) مكتوب عليها «بسم الله بركة من الله للخليفة الرشيد عبد الله هارون أمير المؤمنين -أكرمه الله- مما أمر به الفضل بن الربيع أن يُعمل في طراز تونة سنة تسعين ومائة».
وفي سنة 200هـ /815م، قدم إلى مكة حسين بن حسن الأفطسي الطالبي وملكها، وكسا الكعبة ثوبين رقيقين من حرير أحدهما أصفر، والآخر أبيض ثم في عهد المأمون سنة 206هـ /822م، صار يكسوها ثلاث مرات في السنة، فيكسوها الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطي الأبيض الرقيق يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان.
لما تملك الفاطميون مكة ثبتوا الكسوة البيضاء، وفي سنة 456هـ /1064م، بعث ملك شاه سلطان السلاجقة كسوة للكعبة من الديباج الأصفر، ثم استمرت كسوة الفاطميين البيضاء مدة حكمهم للحجاز، وفي خلافة الفاطميين حج ناصر خسرو عام 442هـ /1051م، ووصف كسوة الكعبة في كتابه «سفر نامه» بقوله: «والكسوة التي تغطي بها الكعبة بيضاء، وقد طرزت في موضعين عرض كل منهما ذراعًا.
وبعد سقوط الدولة الفاطمية كسا الكعبة الخلفاء العباسيون بالديباج الأبيض، وغير الخليفة الناصر قبل سنة 614هـ /1218م، لون كسوة الكعبة إلى اللون الأخضر، حيث كساها أو حكمه بالديباج الأخضر، وقد شاهدها باللون الأخضر ابن جبير في رحلته عام 614هـ / 1218م، حيث وصفها في وصفها: «وكسوة الكعبة المقدسة من الحرير الأخضر».
ثم غير الخليفة الناصر العباسي المتوفي عام 622هـ /1225م، حيث كساها بالديباج الأسود، وهو شعار العباسيين، وثبت لونها على الأسود منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، وقد شاهدها الرحالة الذين زاروا مكة في القرون التي تلت القرن السابع بهذا اللون، كالرحالة ابن بطوطة عام 728هـ، والمرة الوحيدة التي تغير فيها لونها منذ ذلك الحين، كانت في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز من أئمة الدولة السعودية الأولى حيث كساها في عام 1221هـ /1807م، بالخز الأحمر «قماش من صوف ناعم وحرير» ثم عاد إلى كسوتها باللون الأسود.
مصر وكسوة الكعبة
والحقيقة أن دور مصر في صناعة كسوة الكعبة دور محوريً حيث أوصى الخليفة عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين، بأن يتم كسوة الكعبة بنسيج القباطي المصري، وهو نسيج أبيض رقيق كان يتم صناعته في الفيوم وبرع فيه الأقباط المصريون وأتقنوا صنعته.
وبدأت عناية المصريين بإرسال كسوة الكعبة بشكل منتظم ابتداء من العصر المملوكي، وقد اعتنت في بادئ الأمر الملكة شجر الدر بهذا الموكب، ثم حوله السلطان الظاهر بيبرس البندقداري لتقليد صارم يتم تنفيذه بدقة كل عام حيث أصبح من خصائص المملكة المصرية لأن الظاهر بيبرس نقل مقر الخلافة إلى مصر، وصار اسم السلطان بالإضافة لأنه خادم الحرمين الشريفين فصار قسيم أمير المؤمنين، أي يقتسم معه السلطة للخليفة السلطة الروحية والسلطان السلطة السياسية والإدارية والعسكرية.
وصار خروج موكب المحمل هو من العلامات على السيطرة السياسية المصرية طوال العصر المملوكي، وكان له تقاليد حيث يتم تجهيز جمل المحمل، فمن ساعة ولاته لا يعمل، حتى يبلغ السن التي يستطيع فيها السفر، وبعد عودته لا يعمل حتى يقضي أجله إكرامًا لمقام البيت العظيم.
وكان يتم تصنيع كسوة الكعبة من قماش الحرير الأسود ويتم تطريزه بطريقة التقصيب أو بفن السيرما، وهو أحد فنون التطريز التي برع فيها المصريون عبر العصور، حيث يكتب الفنان في البدء ما يريده من كلمات على ورق ويتم تخريمه والطبع على القماش، ثم يبدأ بخيوط الذهب والفضة يغزل على الخطوط والثقوب الدقيقة المتبقية من الطباعة فينتج ما نراه من عظمة وإبداع.
وظلت مصر حريصة على إرسال كسوة الكعبة في موكبها العظيم "المحمل" حتى عام 1962م، حيث تكفلت المملكة العربية السعودية من لحظتها بكساء البيت الحرام، وصار لدى مصر عدد كبير من القطع الأثرية النسيجية التي هي كسوة للكعبة أرسلتها مصر في مراحل مختلفة، يوجد منها ما هو محفوظ في متحف الحضارة بالفسطاط، ومنها ما هو محفوظ في مكتبة الإسكندرية، ومنها ما هو محفوظ في قصر الأمير محمد علي توفيق بالمنيل.