الخميس 21 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

إبراهيم نوار يكتب ملحمة جنين.. إبادة الهوية واقتلاع الفلسطينيين من الأرض.. محاولة مستحيلة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

مع انفجار حرب جنين، التى بدأتها حكومة الصهيونية الدينية المتطرفة بقيادة نتنياهو - بن غفير - سموتريتش، أصبح الفكر التوراتى الدموى هو الذى يسيطر على المشهد السياسى الإسرائيلى حتى ضد اليهود المعتدلين.
ولم يعد محور الصراع الإسرائيلى - الفلسطينى هو مجرد من تكون له السيطرة على المنطقة (ج) المدرجة فى خريطة اتفاقيات أوسلو، وإنما أصبح الصراع لعبة صفرية مطلقة من وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية؛ فأرض فلسطين التاريخية لا تقبل التقسيم، ومن ثم فإن «حل الدولتين» مستحيل.
هذا الصراع الصفرى المطلق لا يحتمل بقاء الفلسطينيين ويتطلب اقتلاعهم من الأرض وإبادتهم، من أجل إبادة الهوية الفلسطينية تماما، لأن بقاءها يذكر المجرم الغاصب بجريمته، ويذكر الضحايا بأن لهم حقوقا يجب استردادها، ويقف شاهدا أمام العالم كله، بأن السلام لن يتحقق بغير الحق والعدل. 
تداعيات على المشهد الفلسطيني
وقد أدت حرب جنين منذ انفجرت فى نسختها الأخيرة فى بداية العام الحالى إلى تداعيات خطيرة ستترك آثارا واسعة النطاق على الصراع الإسرائيلى - الفلسطينى. أهم هذه التداعيات تعميق سقوط السلطة الوطنية الفلسطينية إلى قاع المشهد السياسى الفلسطينى، وهو السقوط الذى بدأ مع حرب غزة عام ٢٠١٤، وتوقف المفاوضات مع الإسرائيليين.
وكان المعادل السياسى والعسكرى لهذا السقوط هو زيادة قوة تنظيمات فلسطينية أخرى أهمها «حماس» و«الجهاد الإسلامي». كما ترتب على سقوط السلطة الفلسطينية إلى قاع المشهد السياسى، انتقال المقاومة الفلسطينية إلى استخدام الرصاص بدلا من الحجارة. 
وطبقا لتقارير جهاز الأمن الداخلى الإسرائيلى «شين بيت» فإنه تم تسجيل ١٤٧ عملا «إرهابيا» منذ بداية العام الحالى فى إسرائيل والضفة الغربية، منها ١٢٠ حادث إطلاق نار، بنسبة تزيد على ٨٠٪ من تلك الأعمال. ونظرا لقرب حلول عيد الأضحى المبارك، الذى يحتفل فيه المسلمون بتقديم التضحية والفداء، فإن ما يحدث فى جنين والضفة الغربية عموما من المتوقع أن يستمر على الأقل حتى نهاية احتفالات العيد. 


ومن المرجح أن تستمر الصدامات الإسرائيلية- الفلسطينية، لأن حرب جنين الجديدة يرافقها مخطط إسرائيلى شرس لتوسيع الاستيطان فى الضفة الغربية، تم إعلانه فى ١٨ يونيو، ويقضى ببناء ٤٥٠٠ مسكن جديد فى المستوطنات الإسرائيلية، وتقنين ما يقرب من ٧٠ بؤرة استيطانية، كانت الحكومة الإسرائيلية السابقة قد اعتبرتها غير قانونية.
ثم أضاف إليها رئيس الوزراء نتنياهو الإسراع بإقامة ألف مسكن جديد فى مستوطنة «عيلي» التى وقع بالقرب منها حادث مقتل أربعة إسرائيليين فى اليوم التالى لاقتحام مخيم جنين. ويترافق التوسع الاستيطانى مع موجة وحشية من اعتداءات المستوطنين المسلحين على القرى والبلدات الفلسطينية تحت سمع وبصر الشرطة وقوات الجيش مثلما حدث فى بلدة «ترمسعيا»، وقرية «اللبان الشرقية»، بالقرب من رام الله، وفى بلدة «حوارة» التى كانت قد تعرضت لاعتداءات مماثلة فى أوائل العام الحالى.
فى هذه الأماكن أضرم المستوطنون المسلحون النيران فى عشرات المنازل والسيارات وبساتين الفاكهة، كما هاجموا منشآت اقتصادية منها مصانع وورش حرفية ومتاجر مملوكة للفلسطينيين.
وقد وصل الأمر إلى إطلاق الرصاص على من يحاول الهرب من وسط الحرائق، فى مشاهد لم تتكرر منذ المذابح التى كانت تنفذها عصابات صهيونية مسلحة مثل «الهاجاناه» و«شتيرن» و«الأرجون». وتعزيزا لهمجية المستوطنين ووحشيتهم، قال وزير الأمن القومى الإسرائيلى إيتامار بن غفير أمام الكنيست يوم الأربعاء الماضى «نريد عملية عسكرية، نريد تسوية المبانى بالأرض، نريد استهدافهم بالقتل» موضحا: «هكذا يجب أن يكون ردنا على الإرهاب».
تداعيات على المشهد الإقليمى والدولي
أدت حرب جنين حتى الآن إلى إثارة غضب واسع النطاق فى العالم العربى، وفى كل من تركيا وإيران، حتى فى الدول التى تربطها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل مثل مصر والأردن والإمارات والمغرب، وغيرها مثل السعودية. وقد أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانا شديد اللهجة يدين الوحشية الإسرائيلية فى اقتحام مخيم جنين، وقصفها من الجو بطائرات الدرونز، واتهمت اسرائيل بانتهاك القانون الدولى الإنسانى. كما صدرت بيانات غاضبة من الأردن تحذر من أن الجميع سيدفع ثمنا فادحا لما يحدث.
وطالبت الإمارات إسرائيل بتخفيض درجة التوتر، كما أدانت تركيا استهداف المدنيين، وقالت إيران إن نهاية الدولة العدوانية فى إسرائيل ستكون على أيدى المقاومة الفلسطينية، وأدانت قطر الفصل الجديد من التصعيد ضد الفلسطينيين.
وعلى الصعيد الدولى صدرت بيانات تدين إسرائيل وتطالب بالتهدئة فى كل من بروكسل وباريس، وأكد الاتحاد الأوروبى على ضرورة عدم المضى قدما فى التوسع الاستيطانى فى الضفة الغربية. أما أشد الردود التى اكتسبت طابعا عمليا فقد كان رد الحكومة المغربية التى قررت إلغاء الاجتماع الوزارى القادم لمنتدى النقب الذى كان من المقرر تستضيفه فى الشهر القادم. 


الاستيطان مقابل نووى إيران
بادرت الولايات المتحدة بإدانة الهجوم «الإرهابي» الذى استهدف الإسرائيليين على مقربة من مستوطنة «عيلي» فى الضفة الغربية. وقالت وزارة الخارجية إن واشنطن تشعر بالقلق إزاء تواصل أعمال العنف فى إسرائيل والضفة الغربية على مدار الأسابيع الأخيرة، والتى تسببت بمقتل وجرح مدنيين فلسطينيين وإسرائيليين.
وتعهدت بالعمل مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية على تعزيز الخطوات الرامية إلى تخفيف التصعيد. لكن موقف الإدارة الأمريكية الحالية تجاه إسرائيل يعانى من مقومات ضعف شديد بسبب قرب انطلاق حملة الرئاسة الأمريكية.
الأكثر من ذلك هو أن الخبرة التاريخية فى الخلافات السياسية بين إسرائيل والولايات المتحدة كانت تنتهى دائما بمقايضة تستفيد منها إسرائيل من ثلاثة أوجه، الأول هو تعزيز الاستيطان، والثانى هو الحصول على مساعدات عسكرية وضمانات أمنية، والثالث هو تعزيز موقفها السياسى استعدادا لجولة جديدة من الخلافات بين الطرفين. 
ويرتبط الخلاف الحالى بشأن توسيع الاستيطان بخلاف شديد بين الطرفين يتعلق بالموقف من البرنامج النووى الإيرانى. ومع تصاعد التوتر بسبب الخلاف حول سعى واشنطن الى توقيع اتفاق مع ايران يضمن ألا تمتلك سلاحا نوويا، عادت إسرائيل الى استخدام تكتيكها المفضل بتصعيد اعتداءاتها على الفلسطينيين، واغتصاب أراضيهم وتدمير ممتلكاتهم.
وفى مقابل أن تغمض إسرائيل عينا على اتفاق أمريكي- إيرانى، فإنها تريد أن تغمض الولايات المتحدة عينيها عن التوسع الاستيطانى الإسرائيلى فى الضفة الغربية والقدس الشرقية والاعتداءات الوحشية على الفلسطينيين التى تصل الى حد القتل العمد خارج القانون، فى انتهاك صارخ لقواعد القانون الدولى الإنسانى. 
هذا هو مضمون الصفقة التى يريدها رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو من الرئيس الأمريكى بايدن. هذه الصفقة تطفو الآن على سطح خلاف إسرائيلي- أمريكى قبل أشهر من بدء حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التى تمارس فيها جماعات الضغط الصهيونية سياسة تقديم فيها مصلحة إسرائيل على مصلحة الولايات المتحدة.
ومع أن المعسكر الجمهورى فى الانتخابات يعانى من شرخ هيكلى خطير بسبب محاكمة دونالد طرامب، فإن حظوظ الديمقراطيين فى الفوز يمكن أن تنقلب رأسا على عقب. وتعلم إدارة بايدن أن أى اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووى سيلقى معارضة قوية فى مجلس النواب الذى يسيطر عليه الجمهوريون. 
ولا يجب أن ننسى أن إسرائيل كانت تعارض الاتفاق الأصلى لعام ٢٠١٥، وبسبب ذلك وقعت أزمة كبرى مع إدارة الرئيس باراك أوباما، إستخدم فيه نتنياهو موضوع زيادة النشاط الاستيطانى فى الضفة الغربية سلاحا لابتزاز الإدارة الأمريكية، التى ردت بالامتناع عن استخدام «حق الفيتو» فى مجلس الأمن ضد قرار فى مجلس الأمن يعتبر أن «المستوطنات عقبة فى طريق السلام».
وعلى الرغم من أن أوباما حاول استرضاء نتنياهو بصفقة مساعدات عسكرية قيمتها ٣٨ مليار دولار لضمان «التفوق النوعى العسكرى لإسرائيل على جيرانها"؛ فإن جماعات الضغط الإسرائيلية عاقبت الحزب الديمقراطى بإسقاط مرشحته فى انتخابات الرئاسة فى العام نفسه، ٢٠١٦.
ومع أن نتنياهو قال فى اجتماع الحكومة الإسرائيلية يوم الأحد ١٨ يونيو إنه يستطيع العيش مع الاتفاق الأمريكي- الإيرانى المتوقع، إلا أنه بعد ٢٤ ساعة شن هجوما لاذعا على الإدارة الأمريكية، بسبب موقفها السلبى من خطة الاستيطان الجديدة التى وافقت عليها الحكومة.
وفى يوم الاثنين وجه رسالته التى تقول ضمنا إن التوسع فى الاستيطان، هو مقابل أن تسكت إسرائيل عن اتفاق واشنطن مع طهران. وتعتبر سياسة دفع موضوع الاستيطان إلى صدارة العلاقات الاسرائيلية الأمريكية، بقصد تصعيد التوتر والابتزاز سعيا للحصول على مكاسب إضافية، تكتيكا تقليديا تتبعه تل أبيب فى علاقاتها مع واشنطن منذ التوتر الأول فى العلاقات بينهما عام ١٩٥٦ عندما رفض ديفيد بن جوريون الانسحاب من سيناء.
واستمر التوتر حتى وافق الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور فى عام ١٩٥٧ على احتفاظ إسرائيل بقرية «أم الرشراش» المصرية المطلة على خليج العقبة، وبناء مستوطنة كبيرة هناك، أصبحت فيما بعد مدينة «إيلات» الإسرائيلية، ثمنا مقابل انسحاب إسرائيل من سيناء. 
ومنذ ذلك الوقت تكرر استخدام التكتيك نفسه. فقد تم استخدامه فى أزمة ريجان - بيجن بخصوص صفقة طائرات الأواكس للسعودية عام ١٩٨١، وهى الأزمة التى تم تسويتها بتوقيع اتفاق للتعاون الاستراتيجى بواسطة كل من كاسبر واينبرغر وارييل شارون، وتوسعت إسرائيل فى الاستيطان، لغرض تثبيت نظرية «أرض إسرائيل»، التى تعتبر الفلسطينيين فى الضفة الغربية غرباء يعيشون على أرض إسرائيلية.
ثم تجدد التوتر بين البلدين بعد عشر سنوات مع خلافات إسحق شامير مع جورج بوش الأب عام ١٩٩١، وهو الخلاف الذى انتهى بسقوط بوش فى الانتخابات الرئاسية التالية، لينضم إلى قائمة محدودة من الرؤساء الذى حكموا فترة رئاسية واحدة، وحصلت إسرائيل على صفقة مساعدات عسكرية بقيمة ١٠ مليارات دولار، مع التوسع فى الاستيطان فى صفقة سياسية مع الرئيس الأمريكى الجديد بيل كلينتون. 
ومن ثم فإن استخدام ورقة الاستيطان هذه المرة، هو استمرار لتوظيف التكتيك نفسه، ولكن بوحشية مقرونة باستخدام القوة بدلا من القانون.
ونظرا لأن إدارة بايدن تسعى لتمرير الاتفاق النووى مع إيران الذى يجرى التفاوض بشأنه حاليا بواسطة أمر تنفيذى رئاسى لتجنب إعلان تفاصيله ومناقشته فى الكونغرس، فإنها ستكون فى حاجة للحصول على تفاهم مع إدارة نتنياهو، لتجنب حدوث مواجهة مع الجمهوريين فى الكونجرس، يمكن أن تكلف الإدارة خسارة الانتخابات الرئاسية فى العام القادم.
وليس من المتوقع أن تمارس الولايات المتحدة أى ضغط حقيقى على إسرائيل من أجل وقف الاستيطان أو الحد من الاعتداءات على الفلسطينيين، نظرا لأن الإدارة الحالية فى موقف ضعيف جدا، وهو ما يجعل حرب جنين إحدى النقاط الفاصلة فى تاريخ الصراع الفلسطينى الإسرائيلى.
ويعود ذلك إلى أن هذه الحرب، بما يرافقها من وحشية عدوانية، وتوسع فى الاستيطان، وسيطرة حكومة صهيونية دينية متطرفة، قد تنهى تماما أى واقعية فى الحديث عن حل الدولتين. وعندما يفقد حل الدولتين أسسه العملية، فإن إسرائيل ستستمر فى تصفية المدن والقرى الفلسطينية فى الضفة، لتحقيق نظرية «أرض إسرائيل» وتأكيد مبدأ سيادة إسرائيل على كل أرض فلسطين.