تتغير الموازين فى أوراسيا بصورة سريعة وجذرية؛ يبدو أن ميزان القوى بين روسيا والصين ينعكس لصالح الصين من وجهة نظر إقتصادية ومالية وذلك على الرغم من أننا نشهد تعقيدًا تدريجيًا للأزمة فى تايوان ولكن على العكس من ذلك، على المستوى العسكرى والجيوسياسى، تبدو الصين وروسيا أكثر إتحادًا من أى وقت مضى.
تسير المناورات العسكرية المتكررة والمشتركة جنبًا إلى جنب مع تكامل استراتيجى أقوى من أى وقت مضى ومع ذلك، فإن المكون الاقتصادى والمالى للتحالف يشهد تنافرًا بسبب توسع التحالفات الصينية فى آسيا الوسطى: قمة شيان هى النموذج لذلك.
سواء أحببنا ذلك الأمر أم لا، فإن الصين فى طريقها لأن تصبح لاعبًا عالميًا كبيرًا جديدًا؛ فنجد أنها تحل تدريجيًا محل الولايات المتحدة الأمريكية على مستوى القوة العالمية: ونحن بالتأكيد لا نحتاج إلى حروب عالمية جديدة لنقولها: إن الاقتصاد والتمويل هما اللذان يحددان إطار التطورات الدولية الحالية.
التوجهات التوسعية للصين
إن الصين التى لها تاريخ وتقاليد ترجع لألف عام، يمكن أن تصبح مرة أخرى وللمرة الأولى منذ ماو، بطل الرواية المطلق للتاريخ. تلعب الحكمة الصينية التى يضرب بها المثل دورًا مهمًا فى هذا التطور.
فمن الناحية العملية؛ وبعد عام ١٩٨٩ ونهاية الاتحاد السوفيتى لم تتمكن الصين من النجاة من انهيار الدول الشيوعية فحسب، بل تمكنت أيضًا من إحياء نفسها كدولة رائدة وقامت بتحديث اقتصادها وتقنيتها بما فى ذلك وضع هونج كونج على أراضيها حتى تضاعفت معدلات التنمية المالية بها وأصبح مركزها الجديد فى شنجهاى. وفى الوقت نفسه، تعمل القوة الصينية على تطوير تقنياتها لدرجة تقديم أول رواد فضاء صينيين وإرسال مجسات إلى القمر مع تطوير شبكة تكنولوجيا كمبيوتر مؤهلة.
وتعتبر هذه صدفة مهمة؛ إن النقاط التى كان الاتحاد السوفيتى فى وقت جورباتشوف فى مكانة متأخرة وفى أزمة فى القرن الماض، هى بالضبط تلك الخاصة بثورة الكمبيوتر فى الإنترنت وتحول النظام الاقتصادى الشيوعى إلى سوق حرة: غير أن الصين قد فازت بتحدى التقدم فى هذه المجالات. وفى روسيا، التهم الأوليجارشية والمضاربون والمافيا قد التهمت بالكامل نظام ما بعد الاتحاد السوفيتى فى التسعينيات. وحتى اليوم، يبدو أن النظام الاقتصادى الروسى يبتعد عن نظام مختلط بين القطاعين العام والخاص ويعتمد على الاستغلال العشوائى للموارد والأصول المالية من قبل البعض وليس على التنمية.
الطريقة الرابحة للقوة الناعمة والدبلوماسية التجارية لبكين فى مواجهة الأخطاء الإدارية التى ارتكبتها الأوليجارشية الروسية.
بينما يستثمر الصينيون فى التكنولوجيا المتطورة والتصنيع منخفض التكلفة، يقوم الروس بالاستثمار فى الفيلات الفرعونية على ساحل الزمرد (سردينيا) والريفيرا الفرنسية ودبى، والتى من الواضح أنها لا تدر دخلًا. هذا العرض العقيم للثروة الجديدة أضر بشكل موضوعى بروسيا، بالإضافة إلى الاهدار الهائل لرأس المال العام والخاص.
على العكس من ذلك، طورت الصين بصورة حكيمة سياحة جماعية عالية الجودة إلى أوروبا، بينما هدفت الطبقة العليا الروسية إلى الشراء النخبوى، على الطراز البرجوازى القديم، للفيلات واليخوت تقليدًا للرأسمالية الغربية بدلًا من تطوير استثمارات بديلة ومؤهلة.
فى هذا المناخ، لم يتصرف سوى عدد قليل من رواد الأعمال الروس، وهم أقلية، ببصيرة بينما ارتكب آخرون، مثل الأوليجارشى رومان أبراموفيتش، خطأ الاستثمار فى شراء أندية كرة القدم الإنجليزية ولكنهم قاموا بتنمية أصول عقارية مثل تلك الموجودة فى جزيرة نيو هولاند فى وسط سانت بطرسبرج وتلك الموجودة فى لندن.
كان الفشل الروسى بمثابة عاملا لتسريع التنمية الصينية: واليوم، تستمر أوراسيا وطريق الحرير فى التطور على الرغم من رياح الحرب فى أوروبا وآسيا بينما تتماشى الدول الناشئة فى آسيا الوسطى مع صعود الصين.
ونتيجة لهذه الثنائية الروسية الصينية التى لم يتم حلها، ولدت أوراسيا على الرغم من الحرب المستمرة. وهى ليست مجرد تعبير جغرافى كما يقول ميترنيخ، ولكنها مستقبل العلاقات مع المنظمات الدولية متعددة الأطراف فى آسيا.
فى الواقع، دعونا نتذكر أنه فى نفس ذلك الوقت أدت الأزمة فى أمريكا وأوروبا إلى تفضيل تطوير ما يسمى بالنمور الشرقية: الهند والصين وإيران وكوريا الجنوبية. تمثل قمة شيان فى مايو ٢٠٢٣ لحظة تاريخية بهذا المعنى لأنه على مدى قرنين من الزمان، كانت روسيا تحت رئاسة بوتين تمر بأوقات عصيبة لأنها لم تستبعد رسميًا من إدارة آسيا الوسطى من قبل. إن توسع الإمبراطورية القيصرية بين عامى ١٦٠٠ و١٨٠٠ قد دفع روسيا بالفعل إلى اعتبار آسيا الوسطى تحت سيطرة استعمارية لعدة قرون. ومع ذلك، فإن حضور قادة آسيا الوسطى: كازاخستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان فى موسكو، فى ٩ مايو، فى القمة الصينية الأوراسية فى مدينة شيان، للعرض العسكرى، أدت إلى نقطة تحول مفاجئة بعد أيام قليلة من قمة هذه الدول مع الصين.
هذه هى نفس الدول التى نعتبرها أبطال قمة شيان، وأخيرًا كمتطلعين مستقلين فى مواجهة الهيمنة الروسية العلمانية.
فإن تغيير المشهد والتحالفات الجديدة واضح. بينما تريد موسكو تعزيز الفضاء الجيوسياسى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، شرعت الصين بالفعل فى السير فى طريقها. ويبدو أن هدفها المتمثل فى وضع بكين على رأس النظام العالمى الجديد متعدد الأطراف بحلول عام ٢٠٤٩ خلال الذكرى المئوية الأولى لميلاد الصين، كان ناجحًا وواضحًا جزئيًا.
الصين هى المساهم الأكبر فى الصداقة الخاصة مع روسيا. من دول عدم الانحياز إلى التعددية الثقافية لدول البريكس الموسعة.
تبدو روسيا كالشريك الأقل فى التحالف الصينى الروسى الخاص. وXy هو فى الواقع الزعيم الفعلى للتحالف الأوراسى الجديد الذى يتشكل مع دول إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية على المستوى الدولى.
فى الواقع، تتزامن مجموعة البريكس الموسعة مع جزء من الدول التى عرّفت نفسها فى الماضى خلال الحرب الباردة، على أنها دول «غير منحازة» فى وقت مبادرة تيتو، الزعيم اليوغوسلافى السابق، لصالح عالم متعدد الأطراف.
لقد كان ذلك وقت المواجهة بين أمريكا والاتحاد السوفيتى. وفى الواقع كانت دول «عدم الانحياز»، كما نعلم، هى عبارة عن عجلة احتياطية من الدول لخدمة مشروع الصين والاتحاد السوفيتى. ولكن بصورة أوقع، فقد كانت أقرب إلى الصين تحت زعامة ماو عن موسكو. واليوم، أصبح هذا المشروع الأوروبى الآسيوى بدون القيادة السلافية ولكن مع القيادة الصينية، هو حقيقة واقعة وحتى أغلبية فى التعددية الثقافية والتعددية القطبية على المستوى العالمى. فى الوقت نفسه، تستعيد دول آسيا الوسطى استقلالها الذاتى مقابل روسيا وتقترب أكثر من العملاق الآسيوى، الصين، التى يُنظر إليها على أنها مملكة وسطى وربما قوة بديلة لروسيا. إن المصلحة الجيوسياسية المشتركة بينهم وبين الصين هى أكثر من واضحة.
كيف يتطور المشروع الجيوسياسي؟
إن كازاخستان، التى تشهد تنمية اقتصادية كاملة، تتمتع بموارد طبيعية هائلة وتحجم عن الخضوع لروسيا ولديها قيادة مستقلة، مثل قيادة تيتو تقريبًا، مقارنة بدول آسيا الوسطى الأخرى.
جعلت الصين بالفعل من طريق الحرير والحزام (BRI) مركزا لتوسعها السياسى والاقتصادى والهيكلى نحو أوروبا.
اليوم فى بيلاروسيا، اللغة الصينية ليست من قبيل المصادفة. إنها تعتبر، مع اللغة الروسية، هى اللغة الثانية والتعبير الأجنبى الذى يتم تدريسه فى المدارس! تعتمد بيلاروسيا بالفعل اقتصاديًا على الصين وأوكرانيا هى المرحلة التالية من التوسع التجارى للصين كنقطة النهاية المخططة لطريق الحرير.
تعتزم الإمبراطورية الجيوسياسية الصينية الوليدة التطور حول طريق الحرير كمحور للتوسع الصينى.
تلعب تركيا والدول العربية والإمارات لعبتهم الجيوسياسية الطبيعية بالتوازى. من الناحية العملية، تمامًا كما شاركت فرنسا وألمانيا وإنجلترا مع الأمريكيين فى عام ١٩٠٠ فى الهيمنة الواضحة شبه الأحادية الجانب على النظام الدولى، كذلك نرى أنهم فى القرن الحادى والعشرين قد تحالفوا مع الصين والهند، تلك القوى الصاعدة ومع روسيا بعد ذلك.
من بين الدول المسيطرة على العالم فى طور التكوين، يجب أن يحدث هذا التطور حتمًا دون المرور بواحدة أو أكثر من الحروب العالمية التى لا معنى لها والتى من شأنها أن تعرقل التجارة والتمويل. ومن ناحية أخرى، تنفذ أذربيجان مشروعها الجيوسياسى الخاص بها بطريقة مستقلة وشبه مستقلة. وهذا البلد يشهد تنمية قوية بفضل موارده الطبيعية الهامة. ومع ذلك، قد ينضم بالفعل إلى المشروع الصينى الأوروبى الآسيوى فى المستقبل.
هل نزع هيمنة الدولار ممكنا؟
ولكن هذا ليس كل شيء. فى الطرف الآخر من العالم، يجب أن نتذكر أيضًا تطورًا ثوريًا مثل طريق الحرير الصينى: منذ مايو ٢٠٢٣، كانت البرازيل تحت رئاسة لولا فى المقدمة - مع دول البريكس - وتظهر من جديد مبادرة لإزالة هيمنة الدولار الدولية والتى، إذا كانت فعالة، يمكن أن تعود بالنفع على تنمية الصين بشكل أكبر.
وهذا من شأنه أيضًا أن يمر من خلال الدور المتنامى للتمويل الصينى فى شنجهاى والعملة الصينية، الرنمينبى (RMB)، والتى كانت تسمى باليوان (CNY).إن الصين لديها بالفعل بداخلها استثمارات أجنبية. إنها تسيطر على جزء كبير من الدين العام الأمريكى وقد طورت شبكة هائلة من الاستثمارات فى الشركات الدولية (بدعم من الفنيين الصينيين). ومع ذلك، تمتد هذه الشبكة إلى أوكرانيا مع العديد من المزارع على وجه الخصوص التى تخضع بالفعل للسيطرة الصينية والعديد من المزارع التى تنتمى الآن إلى الصينيين فى جميع أنحاء البلاد. ولعقود من الزمان، كانت هذه السياسة الاقتصادية الصينية التوسعية واحدة من الاستثمارات الدولية التى تشمل بالفعل العديد من الدول الأفريقية والآسيوية على مستوى العالم.
الأهداف الصينية ومشاكل العملاق الآسيوي
ولكن كل هذا لا يكفى: إذا أرادت الصين أن تحقق أهدافها التنموية العالمية، فعليها أولًا أن تحل، كما نأمل بالحكمة الشرقية، قضاياها المعقدة فى جميع الأوقات: تكامل تايوان، التحول إلى الديموقراطية البرلمانية الصينية مع تطور ديمقراطية اشتراكية شرقية حقيقية ومشكلة التبت.
كذلك الحوار مع روما والمسيحيين بشكل عام لتحسين العلاقات مع الكونفوشيوسية ومع الدولة العلمانية وتنمية مجتمع مدنى صينى حر وتطوير نظام فعال للاستجابة لحالات الطوارئ الصحية أو الفيضانات بناءً على الخبرة المكتسبة فى حل أزمة كوفيد الخطيرة. لذا، وبصرف النظر عن هذه التحديات التى لم يتم حلها، فإنه من حيث التوازنات الدولية الشاملة متعددة الأطراف، نرى أن الصين لديها الآن المبادرة ويمكنها تحقيق معجزة التغيير السلمى للتاريخ والعالم كما نأمل.
معلومات عن الكاتب:
ليوناردو دينى مفكر وفيلسوف من أصل إيطالى.. كانت أطروحته للدكتوراه حول نظرية السياسة وفلسفة القانون، له العديد من الكتب والدراسات، كما كتب الرواية إلى جانب القصائد الفلسفية.. يستعرض، من وجهة نظره الفلسفية، أبعاد المسألة الأوكرانية.. يكتب عن القمة الآسيوية التى عُقَدت فى مدينة شيان الصينية يوم 19 مايو الماضى.