يزيد استمرار الحرب فى أوكرانيا من خطر انتشار الصراع إلى الدول الأعضاء فى الناتو وهو احتمال يرغب بعض النافخين فى النار بشدة فى رؤيته محققًا ولكن يجب استبعاده تمامًا - على المدى الطويل - لأنه سيؤدى إلى التعبئة العامة من بين الشباب الفرنسى لنشرهم فى هذا المستنقع الدموى.
فى ٧ يونيو٢٠٢٣، أشار الأمين العام السابق لحلف الناتو أندرس فوج راسموسن - وهوأيضًا مستشار خاص للرئيس الأوكرانى زيلينسكى - فى مقال فى صحيفة الجارديان البريطانية اليومية إلى أنه ينبغى النظر فى إرسال قوات الناتوإلى أوكرانيا بدءا من البولنديين وتتبعهم دول البلطيق.
ويبدو أن الأمر يتعلق الآن بحلف شمال الأطلسى والاتحاد الأوروبى لإعداد الرأى العام الغربى لقبول ما لا يمكن تصوره: أى إرسال جنود محترفين ثم، إذا لزم الأمر، التعبئة العامة للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٦٠ عامًا كما هوالحال فى أوكرانيا. هكذا يتم طرح السؤال الحتمى: هل سيُجبر الشباب الفرنسى قريبًا على الذهاب والقتال فى أوكرانيا ضد روسيا؟
فى هذه المرحلة من الصراع، بات من الواضح أن الجهود التى تبذلها الدول الغربية لمساعدة أوكرانيا هى جهود غير مسبوقة عبر التاريخ.
وهكذا نقوم بحصر التالى:
- عقوبات مجحفة ضد روسيا على حساب أزمة طاقة مقرونة بركود اقتصادى مقلق للأوروبيين وخاصة لألمانيا.
- مساعدات عسكرية غربية هائلة لأوكرانيا. وفى هذا الصدد، ساعدت إدارة بايدن الحكومة الأوكرانية بما يصل إلى ٣٦ مليار دولار منذ اندلاع النزاع فى ٢٤ فبراير ٢٠٢٢ مع استمرار المساعدة العسكرية التى بلغت قرابة ٢ مليار دولار الممنوحة بالفعل من الولايات المتحدة لأوكرانيا ما بين ٢٠١٤ وفبراير ٢٠٢٢.
- حشد عشرات الدول والمنظمات الدولية (الاجتماع الذى تم على وجه الخصوص فى مؤتمر لوجانو فى يوليو٢٠٢٢)، بهدف إعادة بناء أوكرانيا التى قدر قادتها الحاليون احتياجاتها بـ ٧٥٠ مليار دولار.
- استقبال ٨ ملايين لاجئ أوكرانى من قبل الدول الأوروبية (بما فى ذلك ١١٥٠٠٠ فى فرنسا).
ومع ذلك، يعتبر الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى أن هذه التضحيات غير كافية ويطالب باستمرار بتعزيز الالتزام الغربى لدرجة أن فكرة إلتزام الناتو فى أوكرانيا التى كانت من المحرمات وتفتقر إلى المصداقية بصورة كبيرة قبل بضعة أشهر، قد أصبح من شأنها التأكيد أن الوضع سيؤدى إلى حرب عالمية ثالثة وهى فكرة تناقش الآن علنًا فى أوروبا.
إشراك الناتو فى أوكرانيا
فى وقت مبكر من العام، فى أبريل ٢٠٢٢، كان الجنرال الفرنسى ميشيل ياكوفليف، نائب رئيس الأركان السابق لعمليات الناتو، من أوائل الأشخاص الذين أوصوا بأن تدخل الدول الأعضاء فى الناتومباشرة فى «حرب محدودة» فى أوكرانيا. ورأى أن نوايا فلاديمير بوتين امتدت إلى ما هو أبعد من الحدود الأوكرانية وأنه كان يهاجم الناتو مباشرة.
يعتبر الجنرال البريطانى السير ريتشارد شيريف، النائب السابق للقائد الأعلى للقوات الحليفة فى أوروبا (DSACEUR) فى الناتو(٢٠١١-٢٠١٤)، يعتبر إذن أن روسيا قد دخلت فى الدائرة استعدادًا لصدام ومواجهة مع الناتو. فى وقت مبكر من عام ٢٠١٦، أعلن هذا الجنرال بالفعل عن اندلاع حرب بين الكتلة الغربية وروسيا فى عمل خيالى بعنوان الحرب مع روسيا.
انضم العديد من الصحفيين ووسائل الإعلام الغربية إلى مثل هذا الموقف. على سبيل المثال، قالت لورانس حاييم، الصحفية المقيمة فى الولايات المتحدة والمتحدثة السابقة باسم الحزب الرئاسى «En Marche»، أنها تؤيد التزام الناتو فى أوكرانيا، مستنكرة بصورة علنية خلال برنامج داريوس روشيبين على «LCI»، أن الفرنسيين لا يؤيدون إرسال أطفالهم للقتال فى أوكرانيا.
أما زوريانا حانيك، رئيسة رابطة الطلاب الأوكرانيين فى فرنسا والتى تمت دعوتها على شاشات التلفزيون، «جبن» الفرنسيين الذين يرفضون فكرة الالتزام العسكرى الفرنسى فى أوكرانيا. كان من المؤسف فى بداية الحرب أنه بالنسبة لبعض الشباب الأوكرانيين الذين استقروا فى فرنسا، قد أعادوا إحياء الحس الوطنى إلى حد العودة إلى البلاد «للقتال»، مستحضرين «الأجيال التى تم التضحية بها». هل كان لهذا السبب نرى أنها تفضل أن ترى الشباب الفرنسى يحل محل مواطنيها على مسرح الحرب الخطير؟
جار العمل على تعبئة العقول
من الواضح إذن أن الفكرة الخبيثة لمشاركة الناتو العسكرية فى الفخ الأوكرانى تشق طريقها إلى المجتمع الفرنسى. فى مقابلة أجراها فى ١٤ يوليو٢٠٢٢، أصر إيمانويل ماكرون، عند سؤاله عن حالة استعداد الجيش الفرنسى فى مواجهة احتمال التورط فى صراع شديد الحدة، شدد على القوة الأخلاقية للأوكرانيين قائلا: «إنها أمة تم تعبئة جميع الرجال الكبار بها والقتال. أنا أعتبر اليوم أن هذا هوالعنصر الرئيسي».
إن استخدام المصطلحات ذات الدلالة العسكرية، مثل «اقتصاد الحرب» أو"التعبئة العامة» من قبل الرئيس، عندما يشير ببساطة إلى أزمة الطاقة، هوبلا شك ليس من قبيل الصدفة. فى الوقت نفسه، قرر رئيس الدولة تعزيز الخدمة الوطنية الشاملة ومضاعفة عدد أفراد الاحتياط وتمديد الحد الأدنى لسن الاحتياط بمقدار ١٠ سنوات.
هذه التغييرات لم تفلت من صحيفة Le Figaro التى كتبت فى عناوينها فى نوفمبر ٢٠٢٢: » يجهز الجيش العقول لاحتمال الحرب». تم تمرير قانون البرمجة العسكرية (LPM) فى ٧ يونيو٢٠٢٣ بأغلبية ٤٠٨ صوتًا مقابل ٨٧ صوتًا فى الجمعية الوطنية. وكان الهدف هو «بناء مستقبل الجيوش الفرنسية فى بيئة استراتيجية مهددة بشكل متزايد كما يتضح من الحرب فى أوكرانيا». سيتم دراسة النص من قبل مجلس الشيوخ. وبالتالى، يتوقع تخصيص ٤١٣ مليار يورو لوزارة الدفاع خلال الفترة ٢٠٢٤-٢٠٣٠.
كذلك الأمر فى المملكة المتحدة
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الإعداد للرأى العام مدرج أيضًا على جدول الأعمال فى المملكة المتحدة. ويرجع ذلك لالتزام رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون غير المسبوق بالنظام الأوكرانى. قبل إعلان استقالته من حزب المحافظين فى ٨ يوليو٢٠٢٢، رفض جونسون أى فكرة للسلام مع روسيا.
ودعا إلى دعم أقوى لأوكرانيا، وأعلن أن المملكة المتحدة مستعدة لتدريب ما يصل إلى ١٢٠ ألف جندى أوكرانى على القتال كل ١٢٠ يومًا بهدف «طرد الروس، وطرد جيوش بوتين من كل مكان قد حصل عليه. ومنذ ٢٤ فبراير ولضمان عدم تشجيع الأوكرانيين على إبرام سلام سيئ «. وبالنسبة لبوريس جونسون الذى تصور أنه سيتولى منصب الأمين العام لحلف الناتو، فقد كان من المهم منع الروس من «تجميد» الصراع لأن ذلك سيسمح لهم بتعزيز مكاسبهم الإقليمية قبل شن هجوم جديد.
كان جونسون قد قال خلال زيارته إلى كييف فى يونيو٢٠٢٢: «إن المملكة المتحدة معك وسنكون معك حتى تفوز أخيرًا». وقد كان خطاب إيمانويل ماكرون فى ١٤ يوليو الماضى بنفس المعنى، عندما أعلن أن «فرنسا ستظل دائمًا قادرة على مساعدة أوكرانيا على المستويات العسكرية والإنسانية والاقتصادية والسياسية وأن تفعل كل شيء لوقف النشاط العسكرى لروسيا من خلال العقوبات «.
وفى يونيو ٢٠٢٢، حث رئيس أركان الجيش البريطانى الجديد، الجنرال باتريك ساندرز، الجيش على» الاستعداد لمحاربة وهزيمة روسيا فى حرب عالمية ثالثة «بالمشاركة فى حرب برية أوروبية جديدة!
حرب تلتهم الرجال
على خطى الأمين العام لحلف الناتو، أعلن إيمانويل ماكرون للفرنسيين فى ١٤ يوليو٢٠٢٢، أن الحرب فى أوكرانيا ستنتهى على المدى الطويل. هذا يتجاوز كل التوقعات من حيث استنزاف القوة. كل يوم يموت عدة مئات من الجنود فى المعركة أو يصابون. تجاوزت حصيلة القتلى ١٠٠ ألف قتيل أوكرانى. وعلى الجانب الروسى فإن الحصيلة دموية أيضًا. لكن الشعب الروسى لا يعرف حجم الخسائر البشرية المسجلة. بالإضافة إلى هؤلاء القتلى، هناك آلاف الجنود الذين سقطوا فى القتال منذ ٢٠١٤ فى حرب دونباس.
وعلى سبيل المقارنة، فقد لقى ٢٥.٠٠٠ جندى فرنسى و٥٠.٠٠٠ من الـ Harkis حتفهم خلال الحرب الجزائرية (١٩٥٤-١٩٦٢) و٧٥.٠٠٠ جندى فرنسى فى حرب الهند الصينية (١٩٤٦-١٩٥٤). يقال إن معدل الوفيات على مسرح الحرب الأوكرانى أعلى بـ ٦٠ مرة مما كان عليه فى حرب فيتنام. وهكذا يتم التضحية بجيل من الشباب الأوكرانى والروسى. على الجانب الأوكرانى، تم إعلان التعبئة العامة منذ بداية الصراع لجميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٦٠ عامًا. وعلى حدود أوكرانيا، تم إرجاع الرجال فى سن التجنيد الذين حاولوا مرافقة عائلاتهم للبحث عن ملجأ فى الخارج وإرسالهم للقتال فى الخطوط الأمامية.
أُجبر البعض على ترك زوجاتهم وأطفالهم للذهاب بمفردهم إلى رومانيا أوبولندا ومواجهة خطر سقوطهم فى أيدى المتاجرين بالبشر. لكن ليس الجميع فى نفس القارب. ففى موناكو، كشفت الصحافة المحلية عن وجود العشرات من عائلات الأوليجارشية المسماه «كتيبة موناكو» واللاجئين بعيدًا عن الخطوط الأمامية حيث يقاتل المواطنون الأقل حظًا.
أما فى روسيا، فقد تم الإعلان عن تعبئة جزئية وفقا لمرسوم رئاسى اعتبارًا من ٢١ سبتمبر ٢٠٢٢. وفر مليون شاب روسى من الحشد ولجأوا إلى الخارج.
شباب سلافى أهلكته الحرب
بينما أظهر الرئيس زيلينسكى تصميمه على إرسال مليون رجل لاستعادة جنوب البلاد، علمنا من صحيفة ديلى ميل البريطانية أن السلطات الأوكرانية تتجه إلى الشواطئ والمقاهى وحتى فى الكنائس، لمطاردة الشباب وإخطارهم بأمر التعبئة. يخاف الآباء على أبنائهم، أحيانًا ما يكونون خارج المدرسة الثانوية، ويواجهون احتمالية كارثية لرؤيتهم يتقدمون إلى الجبهة ضد الروس.
لذلك يجب أن نخشى الأسوأ بالنسبة للأوروبيين عندما يستنفذ الأوكرانيون قوتهم البشرية ويموت جزء من شبابهم ويتم دفنه. وفى فرنسا، يبدو أن غالبية المواطنين غير مدركين لهذا الخطر والعواقب المأساوية للشعب الفرنسى إذا انتشر الصراع فى أوكرانيا.
نحو حرب شاملة؟
وكما كتب المستشار السابق لنيكولا ساركوزى، هنرى جوينو، فى عام ٢٠٢٢، «يتجه الفرنسيون ببطء نحو الحرب مثل السائرين أثناء النوم». كان رئيس الوزراء السابق دومينيك دوفيلبان قلقًا للغاية أيضًا بشأن دوامة قد تجر فرنسا إلى الحرب.
وبات من الواضح أن مثل هذه الدوامة ممكنة بسبب تفاعل التحالفات ومشاركة فرنسا فى الناتو. وللتذكير، فإنه بموجب المادة ٥ من معاهدة شمال الأطلسى، إذا كانت إحدى دول الناتو- على سبيل المثال، بولندا أو إحدى دول البلطيق - ضحية لهجوم مسلح، فسوف يعتبر كل عضوفى الحلف هذا العمل العنيف بمثابة الهجوم على جميع الحلفاء وسيتخذ الإجراءات اللازمة لمساعدة الدولة التى تعرضت للهجوم.
تم طمأنة العديد من الفرنسيين فى عام ١٩٩٦ من خلال تعليق الخدمة العسكرية وإضفاء الطابع المهنى على الجيوش والتى استبعدت مسبقًا سحب أعلام المجندين السابقين فى حالة الحرب. تم التخطيط لنظام استدعاء جنود الاحتياط لدعم الأفراد العسكريين النشطين.
وعليه، فإن الاحتياطى التشغيلى العسكرى والاحتياطى المدنى للشرطة الوطنية والاحتياطى الصحى والاحتياطى المدنى للسجون واحتياطى الأمن المدنى سيأتى أولًا. ترجع المشكلة إلى العدد المنخفض لهؤلاء الأفراد لأنه وفقًا للعقيد جان دى مونيكولت: «بالنسبة للجيوش، يمكن حشد حوالى ١٤٠.٠٠٠ شخص نظريًا، بما فى ذلك ٤٠.٠٠٠ متطوعا من احتياطى العمليات من المستوى الأول.
لكن لم يثبت أى تدريب على الإطلاق هذه الإمكانية. لذلك نحن بعيدون عن تعبئة ٥ ملايين مواطن فى فرنسا عام ١٩٣٩، والتى كانت مع ذلك أقل كثافة سكانية مما هى عليه اليوم. وللتذكير، فى مثل هذه الحالة، تشير المادتان L٢١٤١-٢ و-٣ من قانون الدفاع إلى أن الإنذار والتعبئة العامة للسكان تصدر بمراسيم صادرة عن مجلس الوزراء وتعطى هذه المراسيم بشكل خاص للحكومة «الحق فى طلب الأشخاص والسلع والخدمات» فى حالة وجود تهديد كبير للبلاد!
وفى ضوء الشكوك الكبيرة التى يبرزها الصراع المرعب فى أوكرانيا بصورة يومية، لا يمكن لأحد فى فرنسا الآن استبعاد الفكرة الكارثية التى بموجبها، فى المستقبل القريب تقريبًا، يقبل قادتنا السياسيون الأمر للتعبئة العامة ويقع على عاتق الآباء والأزواج والإخوة والأبناء المراهقين إجبارهم على ترك منازلهم للانضمام إلى الجبهة ضد الروس.
من جانبه، اختار الاتحاد الأوروبى التوافق الاستراتيجى مع الولايات المتحدة دون معرفة الشعوب الأوروبية. وتعد شبحا رهيبا فكرة التعبئة العامة فى فرنسا إذا انتشر الصراع الروسى الأوكرانى. ولذلك، دون إعتبار ذلك إهانة للنظام الأوكرانى ورعاته الأمريكيين، يجب تجميد هذا الصراع فى أسرع وقت ممكن.
سيكون السلام السيئ دائمًا أفضل من حرب شاملة جديدة، لأن مثل هذه الكارثة من شأنها أن تقضى على شباب أوروبا وتؤدى إلى تدمير أوروبا. كيف نوقف هذا الصراع الرهيب؟ فقط قرار من واشنطن يمكن أن يغير قواعد اللعبة بالنظر إلى أن الأتراك والصينيين والإندونيسيين والإسرائيليين قد فشلوا جميعًا فى إحلال السلام فى أوكرانيا.
معلومات عن الكاتب:
آنا بوفرو.. خبيرة متخصصة فى العالمين الروسى والتركى وحاصلة على دكتوراه فى الدراسات السلافية من جامعة باريس الرابعة - السوربون وخريجة جامعة بوسطن قسم العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية وهى مؤلفة العديد من الكتب فى الجغرافيا السياسية.. تنضم للحوار بهذا المقال الذى تطرح فيه تخوفاتها من انتشار الصراع الروسى الأوكرانى إلى مجمل القارة الأوروبية.