الثلاثاء 24 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

مارك رامو يكتب: محاولة لضبط المفاهيم (2).. القيم العالمية تنبع من ثقافة كل أمة وفكرة الوطن اختبار حقيقى للإخلاص

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تناولنا فى مقالنا السابق، المبدأ الأول وهو أن السيادة متبادلة بين الدول، وأسهبنا فى الشرح والتوضيح، وننتقل إلى الحديث عن المبادئ الأخرى للجغرافيا السياسية السيادية.
المبدأ الثانى: لا معنى للقيم العالمية إلا بجعلها تنبع من ثقافة كل أمة.. فلقد ظهر كثير من المفاهيم الجيوسياسية باسم «حقوق الإنسان» و«القانون الدولي»، وأكسبت نفسها رداء «العالمية» و«الإنسانية». ومن الضرورى توخى الحذر من الحجة الأخلاقية لأنها - بحكم طبيعتها - تغلق كل نقاش. إنها «ضرورة حتمية» من وجهة نظر المدرسة الفلسفية «الكانطية» وفى كثير من الأحوال فإن الحجة الأخلاقية هى طمس الأخلاق.
علينا أن نقرر أولا أنه لا يوجد شيء اسمه القانون الدولى خاصة أن وجود الأمم المتحدة ونظامها لا يتعارض مع ما أقوله بل يؤكده.. «القانون الدولي» هو غطاء متواضع نغلف به توازن القوى الجيوسياسى بين الأمم من أجل الحفاظ على حد أدنى من الضمير النقى وتبدأ الأخلاق الحقيقية فقط عندما يدرك الإنسان أنه شرير بطبعه وأنه رغم ذلك يسعى إلى الحفاظ على ما يمكن أن يكون من الحرية الملموسة ورفاهية السكان الذين يعانون أولًا.
وفى الحقيقة، يعتبر الانجذاب إلى المفاهيم العالمية والفضيلة بمثابة حصان طروادة للطموحات والشهوات غير الأخلاقية.. تلك الحقيقة ليست جديدة: بين المبشرين القدامى كان الصليب يسبق القانون ويمهد له الطريق. تتمتع فرنسا بميزة فى هذا السياق: فعلى المستوى الثقافى هى بلد موليير ولاروشفوكولد ولا فونتين وكل من أدرك خداع تصور القيم وفخ زخرفة الذات التى ينطوى عنها الخطاب الأخلاقى.
ولكن هل يعنى هذا أننا راضون عن السخرية من أى بناء أخلاقي؟ علينا أن ندرك أن هذه السخرية الضاحكة هى نقطة انطلاق جوهريه؛ فأى نداء أخلاقى يبدأ بهذا الضحك النشط.. وإذا تمسكنا بها فسوف يلومنا أعداؤنا بسهولة على عدم الدفاع عن أى نزعة إنسانية ولن تقوم السيادة إلا على أساس من الدفاع عن مصالح خاصة ومحلية، وستقوم على رؤية غير متكافئة للإنسانية. وسوف تواجه باتهامات بالأنانية أو حتى العنصرية إذا رسخت مكانة دولة ما بناء على أسباب عرقية خاصة أن الفكرة التى أدافع عنها فى كتابى «السيادة هى نزعة إنسانية» هى أن السيادة لا تتعارض بأى حال من الأحوال مع العالمية، بل هى على العكس من ذلك هى العالمية المنجزة والتى تحققت فى تاريخ الشعب وفى العبقرية الوطنية التى تمكنت من تمثيلها. العالمية مفهوم خاص بشعب ذى سيادة.
دافع بريكليس عن القيم العالمية فى خطاباته لكنه كان غارقا فى الثقافة اليونانية وكذلك إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام ١٧٨٩ هو إعلان عالمى ولكنه غارق فى الفرنسية بشدة. ليس هناك تناقض بين هذين المثالين التاريخيين بمفهوم العالمية والوطنية.
العالمية التى حققتها السيادة هى عالمية ملموسة تحققت عبر التاريخ. أنا أختلف مع العالمية الكانطية المجردة، بما تمثله من خلل كبير فهى إما ثرثرة جوفاء وإما قناع للحيوانات المفترسة التى تتصرف وفقًا لمبادئ تتعارض تمامًا مع ما يدعونه.
سيفاجأ البعض من رأيى بأن العمل الأخلاقى للفيلسوف كونيجسبيرج «ثرثرة». إن عمل كانط الأخلاقى ليس إلا تضخيم لفكرة بسيطة طرحتها جميع الأديان: «لا تفعل بالآخرين ما لا تريد أن تفعله بنفسك ليست هناك حاجة إلى كل هذه «الهندسة المعمارية» أو «الضرورات القاطعة» لوصف جملة واحدة فى مئات الصفحات. إن السيادة هى الحامل الأساسى للإنسانية الحقيقية حيث إن كل القيم التى تروج لها تكون على المحك عبر التاريخ. عندما لا تكون الإنسانية راسخة فى واقع تاريخى فإنها تكون نفاقا.
عندما أكدت حنة أرندت أن خطأ الرجل «الكانطي» هو أنه كان خاليًا من كل شيء. ولتحقيق كماله الأخلاقى يجب تجريده من تاريخه وثقافته وهويته الخاصة حتى لا تنتقص عالميته المقدسة. إن أفضل تجسيد لهذا «الرجل العالمي» هو ذلك الرجل الواقف أمام مخيم كاليه.. لقد تنبأت أرنت بالانحلال العدمى للعولمة وجنون ثقافة الووك أمر متوقع بشكل غير عادى من قبل هذا الحارس للعالم الحديث؛ فلقد أثبت التاريخ أن النوايا العالمية الحسنة تولد الوحوش. قد نجد تفاؤلًا مفرطًا فى الإيمان بالقيم العالمية ولا يتخطى بعض دعاة السيادية هذه العتبة: فهم يؤكدون قبل كل شيء على خصوصيات كل شعب بطرق مختلفة جذريًا بل متعارضة وغير متوافقة تمامًا فيما بينهم. فمن وجهة نظرهم ليس هناك نوع بشرى بل طوائف من الإنسانية تحددها كل دولة.
هذا النوع من السيادية تخاطر بالوقوع فى دائرة مجتمعية ضيقة، تفتقر الرحابة والرؤية التاريخية. فهى لا تستطيع أن تفسر كيف يمكن لإنسان أن يحب وطنا غير وطنه بشكل أكثر قوة وكثافة، أن بلدًا بالتبنى يمكن أن يجعلك تشعر أحيانًا بحب أقوى وأكثر كثافة فكما يقول رومان جارى. إن السيادة غير الإنسانية تخاطر بالوقوع فى درجه من الأنانية.
وفى الحقيقة، يعتبر رد الفعل تجاه الظلم واحدا عند كل البشر بصرف النظر عن أصله أو ثقافته. نجد أيضًا مفهومًا مشابهًا هو أن مفهوم الرجل الفرنسى أو الرجل الإنجليزى موجود فى جميع ثقافات العالم. ففى الصين يطلق عليه Junzi. وفى الثقافة العربية نجد «سيدي» يحمل نفس المعنى، وكذلك الحكيم فى الثقافة اليهودية كما وجد Unbutu الأفريقى شكلًا من أشكال الإنسانية منذ زمن بعيد ودون الحاجة إلى إنشاءات نظرية ثقيلة.
وتنطوى السيادية الإنسانية عن إعادة اكتشاف القيم العالمية من قبل كل شعب: كل حسب مساره الخاص به والفريد من نوعه وبما يعبر عن فكره الوطنى.. هذه السيادية هى اختبار حقيقى للإخلاص: فهى تكشف عن مدعى السيادية بأفقه الضيق ومدعى الكونية المنافق.
قد يخون صاحب السيادية الضيقة فكرة أنه لا يدافع عن الارتباط بالأمة ولكنه يؤمن بنمط أساسى من عدم المساواة العرقية أو البيولوجية بين البشر. يجب ألا ينزلق حب الوطن إلى الاعتقاد بأن جزءًا من البشرية دائما ما هو فى دائرة الظلام. ذلك أن حب الوطن على العكس من ذلك، هو الإيمان المنجز فى التاريخ بإمكانية وصول كل البشر إلى قمة الحضارة.


على العكس من ذلك سيكون كل من «الإنساني» و«الكوني» المنافق على المحك. فى الواقع، يتميز هذا «الإنساني» بخصوصية الدفاع عن القيم العالمية بشرط أن يكون الغرب والولايات المتحدة هما القادة. يا لها من عالمية مثيرة للفضول إذا تضمنت بندًا إضافيًا بأن تمتلك جزءًا من الإنسانية والى الابد. أنه يعترف بحق هذا الجزء فى المشاركة بشرط أن تكون القيادة له إلى أجل غير مسمى وأن الدول الأخرى ليست إلا تابعا لها. بالنسبة لهؤلاء «الكونيين»، فإن القيم التى يدافعون عنها مصحوبة دائمًا باحتكار هذه القيم نفسها. إنهم يدافعون عن الأخلاق بشرط أن يكونوا هم مؤسسو هذه الأخلاق.
إن الأخلاق ليست مسألة مبادئ أو قواعد رسمية.ولكنها ناتج للاحباطات اللامتناهية لغرور الانسان. إنها تقريبًا مسألة نفسية تنطوى عن مواجهة تضخم الشعور بالذات واختبار غروره. يجب أن نعترف أن الفلسفات الآسيوية حققت تقدما فى هذا المجال من خلال القيم الرواقية وقد أدرك الغرب أهمية هذا الارتقاء بالروح من خلال التأمل والزهد وأحيانًا الألم الجسدى الذى يعيدنا إلى التواضع عن طريق إدراك محدودية الجسد.
لقد تخلت الثقافة الغربية عن هذا المسعى الأصيل لصالح الشرعية المنافقة. لقد تخلينا عن القرن الفرنسى العظيم وعن السخرية اللاذعة لفرانسوا دى لا روشيفوكولد وأقواله الرائعة التى تبين كيف يمكن أن يكون الإيمان والفضيلة هما المسرح الحقيقى للنرجسية والغرور المتضخم. إن المسرح البشرى لبلاط لويس الثالث عشر ولويس الرابع عشر وألعابه القوية ومؤامراته هى المختبر الواقعى للروح البشرية الذى يستحق كل كتب الفلسفة الدراسية الشاقة.
إن الحركة المزدوجة للاحتكار الجشع للقيم فى نفس الوقت الذى يتعلم فيه الإنسان الدرس المستفاد منها هى السمة المميزة لتارتوف الحديث، الخبراء فى إظهار الذات وفى التقارير الصادمة لمدة ساعات قليلة فى معسكر من اللاجئين أو فى مسرح العمليات من أجل العودة وبسرعة إلى عالم الفنادق الفخم التى يعيشون فيها. هذه «الأخلاق» هى تضخيم للأنا التى لا تعرف إلا الازدراء من أى إنسان يستحق هذا الوصف.
على المرء أن يجيد قواعد اللعبة إذا أراد أن يكون «عالميًا» وعليه أن يعترف أن أى إنسان آخر أو شعب آخر من الممكن أن يتجاوزه ويأخذ مكانه فى ساحة القيادة.
إن السيادية الإنسانية تضع هذا الفكر على المحك إذ تتحمس لثقافة آخر وحضارة الآخر وتهتم بمعرفة كيف انضمت إلى هذه القيم العظيمة بطريقتها الخاصة التى هى فريدة من نوعها والتى تركت بصماتها فى العالم.
لن يتمكن النظام السياسى الصينى فى يوم من الأيام من استعادة حقوق الإنسان إلا من خلال الثقافة الصينية. من خلال اشتقاق هذه القيمة العالمية من التاريخ الصينى والفكر والحضارة الصينية. وأفكار Confucius وMengzi دليل على ذلك.
لو تخلص العالم العربى من الفكر السياسى اللاهوتى الذى يتمسك به فسيكون ذلك من الفكر العربى الإسلامى. على سبيل المثال من خلال المعتزلة أو ميراث محمد عبده فى مصر. إن الخطر القاتل لـ «الإخوان المسلمين» يكمن فى أنه نظير الإنسانية الغربية الزائفة: فهما متمثلان كل منهما يلف نفسه بما يسمى بالفضائل الأخلاقية. 
إن أى مناشدة للقيم «العالمية» «الإنسانية» تثبت أن النوايا الحقيقية لمن يشرعها هى عكس ادعاءاته. أن ما يتكلم هو غروره وجشعه، وليس الرغبة الصادقة فى مساعدة زميله.
وفى الواقع، جعل القيم العالمية تنبع من ثقافة كل أمة هو الطريقة الوحيدة لإظهار الاحترام الحقيقى للآخرين والمطالبة بالإنسانية. ويهتم أصحاب السيادة الحقيقيون بالثقافات البشرية الأخرى ويقدرونها، خاصة أنهم يحبون ثقافتهم الخاصة ويحافظون على احترام بلدهم.. إنه قانون نفسى معروف ينص على أن مساعدة الآخرين ممكنة فقط إذا كان لدى المرء مستوى معين من الثقة والاستقرار؛ وخلاف ذلك، فإن ما يسمى بالإيثار هو مجرد طريقة خادعة للهروب من مشاكل الانسان. 

معلومات عن الكاتب:
مارك رامو مهندس ومدير مشروع فى شركة صناعية فرنسية كبيرة فى كتابه الأخير «السيادة هى الإنسانية» يتحدى التصورات المعتادة للأمة والثقافة والسياسة بينما يعيد تعريف الهوية ويلقى نظرة جديدة على العالم.. يواصل مارك رامو فى الجزء الثانى من مقاله، تقديم تعريف غير مسبوق لما يجب أن تكون عليه الجغرافيا السياسية السيادية.