سبر أغوار التاريخ والأدب والنفس البشرية وقدم كتاباته بصدق ومحبة
مثقف استثنائى تطابق بداخله الإنسانى مع الإبداعى
يندر المبدعون النبلاء فى زماننا. أعرف مبدعين كثر بعضهم تعجبنى كتاباتهم من حيث اللغة، وبعضهم يختطفون العقل تحليلا وعمقا. بعضهم يُحلق بنا فى سماوات واسعة لنطل على عوالم الدهشة والسحر هُنا وهناك، وبعضهم يسافر بنا إلى أزمنة سحيقة، لنتابع حكايات ماتعة لأشخاص غريبين يستفزون خلايا الانتباه داخلنا. بعضهم يشبك الحروف، الواحد جوار الآخر، صائغا معنى جديدا، والبعض يُفكك الأفكار الخائرة التى تهيمن على ألباب الناس دهورا.
وبدون شك، فكل هؤلاء يصنعون خلود الإنسان بما فكروا، وقالوا، وكتبوا، وأبدعوا، لكن كم منهم يمتلك كل هذا النبل؟ كم كاتبا لديه هذا الصدق الإنسانى الفريد الذى يفوح من كاتب نادر استثنائى مثل مصطفى بيومي؟ مَن منهم مبدعا بحق وإخلاص وزهد وتواضع مثله؟ مَن يجمع الحُسنيين بهذا الوضوح، وهذا التكامل وهذا التناغم سواه؟
أعرف الأستاذ مصطفى بيومى مُنذ قرابة العشرين عاما، أتابع كتاباته المُدهشة، وأستمتع بإبداعاته الساحرة، وأُحلق فى سماوات رؤاه الفلسفية وأتجول فى فلوات خيالاته، لأشعر ببهجة المتذوق جمالا يطلبه وسحرا يبتغيه.
أتعلّم أتعلّم من تطابق الإنسانى بالإبداعى فى شخصه، فمع ثقافته الواسعة، ورصانته فى اللغة، ودقته فى اختيار عباراته، موضوعاته، وتحليلاته، ونزاهته عن الهوى فى آرائه، وأفكاره، وأحكامه، فإنه يعيش بتواضع جم، ويطل ببساطة مفرطة، ويتعامل مع مَن يعرف ومَن لا يعرف برقى ولين وتحضر.
يُعرف الأستاذ فى الوسط الثقافى برغبته الدائمة فى نفع الآخرين. يمد يدا مُحبة، داعمة، مُشجعة، طيبة، حانية، يمسح دمعا ساخنا، ويربت على ظهر موجوع، ويصرخ فى وجه القبح فاضحا حقيقته دون حسابات. لا يلتفت لنتائج ولا يلهث خلف ثمار، ولا يسعى لجائزة، فجائزته هى أن يكتب ويكتب فقط، دون إملاء أو توجيه أو تلميح. يكتب ما يريد، يعطي، يُبدع، يتحرر، وينفث جماله للإنسانية، وللخلود.
أدركت مُبكرا سره، فهمت سحره، وأمسكت بجواهره. قبل عشرين عاما أو أقل قليلا أنارتنى إسهاماته الفكرية، فسعيت إليه متعرفا لأستضيء بمعارف شتى، تؤكد لى أن الكتابة مجد، والابداع خلود. تقدمت إليه لأسأله، وأناقشه، وأقترب منه لأغترف من فيض نوره.
أن يعرفك قارئ ما لا يمت لك بصلة بعيدا بعيدا، فيُحبك من أجل ما تكتبه فذلك أعظم ما يربحه الكُتاب فى بلادنا وزماننا. وهذا كان خيط الوصل الأول بيننا، ومن بعده استطال الخيط لأجد قناعة فى أن أعرض بضاعتى على الأستاذ منتبها لملاحظاته ومستزيدا بأفكاره، ومنتفعا بنقده.
يكتب الأستاذ مصطفى بيومى فى الأدب فيأسرك أسلوبه، يُمسك بتلابيب أبطاله ويخوض بهم غمار تجارب إنسانية مروعة ليُدهشنا ويُمتعنا باستعادة حكى الحياة أخرى بألوان شتى.
يكتب فى التاريخ فتفتح لنا ملاحظاته الذكية أبواب الاعتبار والتفكر فيما هو آني، وتُنير لنا مسالك الأيام القادمات فنستقرئ ما هو آتى لنتهيأ له.
يكتب فى الفن، فيستخلص الجمال من غابات القبح، يقيسه قياسا، وييُقيمه وفق أسس منطقية وموضوعية شديدة الدقة.
يكتب عن الإنسان فى ذاته، فتنفتح سراديب النفس فيما تفكر فيما ورائيات كل حدث، حتى نشعر أنه يغمرنا بنور الحقيقة لنرى الواقع بدون تزويق.
لقد كان ومازال للرجل فضائل عظيمة على وعلى زملاء كثر من جيلى أو من أجيال عديدة تالية انتفعت برؤاه وتصوراته وأفكاره.
وكما قال الحكماء، فإن العرفان فضيلة لازمة للحياة، وأن الوفاء دليل تحضر، وهو من قبل ومن بعد خلق نبيل يستحق امتنانا حقيقيا، لذا فقد سعدت باحتفاء هذه المؤسسة العظيمة بالأستاذ مصطفى بيومي، ورأيت أن مشاركتى بأقل قدر وهو أن أكتب كلمات فى تحيته هى أقل ما يُمكن فعله. فطوبى للمبدعين الطيبين، والمجد للكتابة.