المكان: مقر جامعة المنيا
الزمان: شتاء عام 1987
يخطو الطالب الريفي مع زميلته في الدور الخامس بمبنى الجامعة بحثا عن الناقد والكاتب مصطفى بيومي دون موعد سابق، فالهواتف المحمولة والرسائل الإلكترونية كانت لا تزال في رحم الغيب، يدخلان مكتبا واسعا به عدة موظفين ويتقدمان من طاولة يجلس خلفها الأستاذ، فيقف لهما مرحبا ومبتسما، يترك كرسيه ويجلس بجوارهما ويطلب لهما الشاي، يخرج الشاب خربشات كتابة يسميها قصيدة وتفعل الفتاة نفس الشيء، ومصطفى ينصت باهتمام يبعث الثقة في نفسيهما. الغريب أن لا يوما كان يمر دون أن يطرق باب مصطفى كثيرون مثلي وهو لا يرد قادما ولا يعتذر بضيق وقت.
عرفته في نادي الأدب في سنتي الأولى بالجامعة ضمن كوكبة جميلة من النقاد والمبدعين منهم الدكتور منير فوزي والدكتور محمد مدني والراحل الدكتور محيي الدين محسب، كان الزمن زمن فتنة واستقطاب، فالحرب كانت على أشدها بين الدولة والجماعات المتطرفة في المنيا، لكن هؤلاء الرواد هم من أخذوا بأيادينا وأرشدونا إلى الكتب والإبداع والمعرفة. كان مصطفى هو العرّاب الذي يمد ظله فوق الجميع، يدفع لنا حساب الشاي في مقهى سافوي، يعيرنا كتبه، يراجع نصوصنا، وحين يتحدث يأتي صوته هادئا مطمئنا وكأنه كلام قديس.
فرقتني عن مصطفى ومجموعة المنيا ثلاثون عاما من الغياب في أصقاع الأرض، لكنني كلما قرأت كتابا من مؤلفاته النقدية والإبداعية أتذكر ذلك اليوم الشتائي الذي طرقت فيه بابه، وأتذكر كم بذل من الجهد معنا لينمي مواهبنا ويعلمنا أن " على هذه الأرض ما يستحق الحياة" حتى في أحلك ساعات الظلام. حين كانت قوى التطرف تسيطر على الجامعة كان مصطفى يعد لنا معسكر قراءة، ينتهي بحلقة نقاش لأربعة أو خمسة أشخاص يسأل كلا على حدة عن فكرة الكتاب ونقده له.
من الصعب اختزال قامة كبيرة مثل الأستاذ مصطفى بيومي في مجال محدد، لكنه بالنسبة لي هو نموذج حقيقي ونادر للمثقف العضوي كما رآه غرامشي، لم تمنعه معرفته من الاشتباك بمجتمعه ودوائره، لم يتكسب من ثقافته وفنه، لكنه قدم كل هذا العطاء بسخاء ولم ينتظر منحة أو جائزة من أحد.. تحية لك يا صديقي وأستاذي فمثلك لا يجود به الزمان كثيرا.