دوما كنت أرى مصطفى بيومى يمتطى صهوة قلمه؛ مخرجا من رحيقه شهد الكلمات. بجواره مِمْحاة لا تهوى، ولا تبصر سوى الجمال، ولا تسمع غير شجون الأوراق؛ فتمحى خطايا عشاق الإبداع؛ وتبقى نجواهم وشجونهم؛ وتظهر ما يخفى على أصحاب البصر، ويدركه أصحاب البصيرة.
بين ثنايا قلمه تكالبت الهموم، على قوافى أفكار؛ كان يحلم أن يصوغها قلبه حلما، لكنه تكسر على نصال أمواج زمن، لم يعد يعرفه؛ ظاهره ليس كباطنه.
مصطفى بيومى بسنواته التى تجاوزت الستين فى التقويم الميلادي؛ تخطى عمره القرون فى طريق مر خلاله المتنبى وأبى العلاء المعري؛ ورفاقه فيه تشيخوف ونجيب محفوظ، وسبقه فيه بخطوات حكمة بابلو نيرودا..
ظلل خطاه المتنبى بمزيد من الكبرياء والشجاعة، وألهب فؤاده بعشق مغامرات البحث بين أروقة الإبداع والمبدعين؛ معتزا بكل كلمة كتبت من أجل إنارة طريق الإنسانية. البسه رداء الفخار بكونه مبحرا فى عالم المعرفة، يستمتع بسماع الشعر، وما تضمنه من حكمة وفلسفة السنين. قد كان مثله عندما وجد فى الإحسان قيد فقيده. لذلك لم يكن غريبا عندما أثر الانزواء بعيدا عن الكتابة والنشر، فأتخذ قرارا ولم يكثر عليه التأسف، ففى الترك راحة، وبعدا عن حبيب جفا.
يجمعه مع أبى العلاء المعرى تعبير (تشاؤم العقل)!. ذلك التشاؤم الإيجابى المحفز للإرادة وزيادة الوعى للتغيير. إنه سلاح يشهر فى وجه الجهل والظلم والفساد. كلاهما تجاوز التشاؤم عنده المعنى الشخصي، بل تعلق وحلق فى الأفاق المحيطة به، محاولا استنباط بذور الأمل؛ بمزيد من المشروعات الإبداعية المبتكرة، وذات الدلالات والاتجاهات المختلفة. طارحا رؤى مترابطة ومنسجمة للعديد من القضايا التى طرحها الأدب من خلال الكثير من المبدعين. كلاهما يضع ضمن نهجه الشك، والقلق، والحيرة. رافضين اليقينيات الموروثة والمهيمنة. لنحصل فى النهاية على هذا التنوع فى الإبداع من الموروث الإنساني. يشاركه أيضا ما نسميه (التدين العقلاني)؛ المعتمد على المنطق، وجعل العقل إماما، عند تقييم الأزمات وتحليل الأهواء. كلاهما لا يجد تعارض بين سلطة العقل وبين حاجات البشر الطبيعية للتدين.
لا أعرف حتى الآن ما سبب عشق المبدعون العرب غزيرى الإنتاج بأنطون تشيخوف، هذا ما عرفته عن يوسف إدريس وأسامة أنور عكاشة وصديقى مصطفى بيومي؛ الذى تجذرت فيه فضيلة البذل والعطاء كما فى تشيخوف؛ إلى جانب هذا الكم الهائل من الإنتاج الأدبى المتناول كافة نواحى الحياة، ليؤكد ثراء عبقريته الإبداعية. كلاهما ليبرالي، غير مغالى. عاشق الحب والحرية. وسر هذا التدفق الإبداعى يكمن فى التخلى عن شهوة الاقتناء، والتفانى داخل الروح الخلاقة، والاستغراق فى الصبر والتسامح، والتناغم بين الحكمة والعفوية المتحدة مع عناصر الكون المختلفة.
دائما ما أصف مصطفى بيومى لمن لا يعرفه بأنه الكاتب الذى يعرف نجيب محفوظ، أكثر من نجيب محفوظ نفسه. وإن معظم رسائل الماجستير والدكتوراه فى مصر كان لبيومى أياد بيضاء عليها. نجيب محفوظ وعالمه هو مشروع بيومى الأكبر، عبارة عن ١٨ كتابا صدرت حتى الآن؛ ما بين دراسة عن "المقاهى فى عالم نجيب محفوظ"؛ "الرؤية الوفدية فى أدب نجيب محفوظ"، "نجيب محفوظ والإخوان المسلمون" والعمل الموسوعى "المسكوت عنه فى عالم نجيب محفوظ" المتضمن ٢٢ دراسة فى أدبه، إلى جانب سلسلة كبيرة عن الشخصيات لديه مثل كمال عبدالجواد إحدى أبرز شخصيات ثلاثتيه "بين القصرين وقصر الشوق والسكرية". وتكمن حالة التجانس بين أدب نجيب محفوظ وبيومى فى الفهم العميق لشخصية صاحب نوبل وعلاقتها بالعالم المحيط به.
أما صديقى الإنسان مصطفى بيومى والذى تجمع بيننا، بين الحين والآخر فناجين القهوة والبوح ذو الشجون. أعلم أنه عندما يصف حياته، سيردد ما قاله بابلو نيرودا فى مذكراته: "أعترف بأننى قد عشت".