قد أكون ذا أخطاء شتى وخطايا ليست قليلة، لكننى لست نرجسيًا مغرورًا لأزعم أن فى سيرة حياتى ما يستحق أن يُروى ويُدون، كما هو الحال عند عدد لا يُستهان به من كبار السياسيين والمفكرين والفنانين والأدباء ونجوم السينما، فضلًا عن المهنيين الناجحين فى الطب والهندسة والقانون.
حياتى عادية جدًا، تخلو من المغامرات المثيرة والتأثير الخطير المدوى الذى يترك صدى، ولعل فى هذه الحياة العادية ما يستدعى شكلًا جديدًا يشبه السيرة الذاتية، وقوام هذا الشكل هو التوقف عند بعض من تركوا فى حياتى العادية بصمات غير عادية، ذلك أن الكتابة هى العمل الوحيد الذى احترفه وأتقنه، أو أقترب من إتقانه، ولا زاد لاجتهاد الكتابة هذا إلا ان تقرأ وترى وتسمع.
عند بعض الأحبة الذين أقرأ لهم وأشاهد إبداعهم وأستمع إليه، تتوقف شبه السيرة عبر النبش فى تراكماتهم داخل النفس عبر أكثر من نصف قرن.
باستثناء بهاء طاهر وجميل عطية إبراهيم وشادية، والنجمة السينمائية العالمية المعاصرة ساندرا بولوك، التى أراها نموذجًا خلابًا للمرأة الجميلة كما ينبغى أن تكون المرأة الجميلة، فإن الآخرين ممن أتوقف عندهم ومعهم ليسوا من الأحياء، والأغلب الأعم ممن أُتيح لى أن أعاصرهم لا تربطنى بهم علاقة شخصية مباشرة. لا يليق أن أستخدم كلمة "الموتى" عند الحديث عن أحبتى هؤلاء، ذلك أنهم أحياء فى قلبى وقلوب الملايين. لا يعنى هذا أننى ألزم غيرى بحب واحترام وتقدير من أحبهم وأحترمهم وأقدرهم، لكننى على يقين لا يتزعزع من أننى لست وحدى من يتعلق بالذين أتحدث عنهم فى الصفحات التالية.
لا شيء من القراءة النقدية أو التحليل الجاف فى فصول الكتاب، والأمر فيما آمل أقرب إلى المزيج الذاتى الموضوعي. أرصد تفاعلى معهم فى المقام الأول، وأبحث عن بداية العلاقة وتطورها، وأتوقف أمام بعض المشتركات التى تجمعنى بهم. لا أرى أحبتى هؤلاء ملائكة أو قديسين، ولابد أن فى حيواتهم أخطاء وخطايا قد يتوقف عندها آخرون، لكننى أحبهم بكل ما فيهم من عيون ونواقص، وللحب قوانين خاصة لا تحفل بالثوابت الشائعة التى تتكئ على العقل والمنطق.
الأحباء التسعون ليسوا كل من أحببت فى رحلة حياتى بطبيعة الحال، ففى سنوات عمرى مئات غيرهم، لكننى أجدهم الأهم والأعظم تأثيرًا، ولو أننى سُئلت عن المنهج الذى اتبعته فى اختيار هؤلاء دون غيرهم، فلابد أنني سأجيب بلا تردد: ليس من منهج ولا ينبغى أن يكون.
أعود لأوكد أننى لا أكتب سيرة ذاتية تقليدية، ولا أفكر أيضًا فى تقديم دروس وعظات وما يشبه ذلك من المفردات. غاية ما أتطلع إليه أن تتجاوز الصفحات التى أكتبها دائرة الذات، وتقترب من التعبير عن مشاعر جيل كامل، أو ربما أكثر من جيل. لقد عاصرت ستينيات القرن العشرين طفلًا تشيّبه هزيمة يونيه وتداعياتها، ويصطدم فى شبابه المبكر مع عواصف التحولات الجذرية المترتبة على سياسة السادات، ثم تتخذ الحياة مسارًا مختلفًا منذ الثمانينيات، يفضى إلى ما نعيشه الآن. سيجد من يماثلوننى فى العمر أشياء كثيرة مما عاصروا، ولن يحول تباين التفاعل دون وجود مشتركات تتجاوز الكاتب وتجربته إلى وطن كامل.
لا شك أننى أحب وأكره، وأعدل وأظلم، وأقترب من الحياد وأبتعد عنه، لكن المحصلة النهائية فيما أرجو هى الاقتراب من المقولة المضيئة للكاتب العبقرى جابرييل جارسيا ماركيز، وهو واحد ممن أحبهم ولم اكتب عنهم: "الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هى ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه".
لن أعيش أكثر ما عشت، وها آنذا أتذكر وانبش، وأروى مسلحًا بالصدق بعض ما أتذكره.