في أول الثمانينيات حصلت على ليسانس الآداب من قسم اللغة العربية، بتقدير عام جيد مرتفع، ثم السنة التمهيدية للماجستير بتقدير جيد جدا، وكمعظم شباب جيلي كنت مشتتا موزعا ما بين الرغبة في السفر لبلاد النفط الغنية، وبين العمل داخل مصر وحب المسرح وقراءة الشعر وعشق الرواية والرحلات مع الشلة والسهر البرئ ولعب الاستميشن بالساعات وسماع أم كلثوم ولعب الشطرنج بالأيام.
إلى أن ساقتني قدماي يومًا بصحبة صديق شلة أوراق اللعب (رحمه الله وغفر له)، اسمه موفق، وفي بيته التقيت بأخيه الأكبر في شقة بشارع ابن خصيب أعلى مكتبة الهيئة العامة للكتاب، وعندما دخلت الشقة وجدت شابًا غريبًا عجيبًا يكبرني بأعوام قليلة لكنني فجأة شعرت أنه أبي.. يفرض عليك احترامه، ولكن فجأة أيضًا، وبعد دقائق معدودة تحبه جدًا كأخيك الكبير.
كان يجلس بين كومة من الكتب، والعشرات من الروايات التي كنت أسمع عنها، وأطنان من المسرحيات والمجلات ودواوين الشعر.. وشعرت أنه راهب يتعبد في محرابه.. عاشق ولهان للأقلام والأوراق والسجائر ينظر بين الحين والحين إلى كتبه نظرة حب وحنان وعشق متبادل كأولاده.. نظر إليّ بعمق شديد قائلًا: ماذا تنوي؟.
فقلت متصنعًا الوقار: أحب الرواية والقصة القصيرة! وأعشق الشعر! لكنني أميل إلى أدب المسرح!.. فقال لي بحنو: طب بلاش السؤال ده! إيه الفرع اللي عندك في مكتبتك كتب أكتر؟.. قلت بسرعة: المسرح.
قال: خلاص نشتغل نقد مسرحي.. اقرأ كتير على قد ما تقدر ولا تضيع الوقت ثم تقرأ كتب عن كيفية نقد المسرحية المكتوبة لمندور وعلي الراعي ورشاد رشدي!
هزيت رأسي موافقًا مدعيًا المعرفة والعلم بهم.. وأنا أقول في نفسي (يانهار أبيض مين دول؟) وهو يتحدث عنهم كأنهم كانوا معه أمس!
وهكذا وُلد داخلي الناقد والمسرحي على يد المفكر مصطفي علي بيومي الأديب والشاعر والناقد الموسوعي.. تنظر في عينيه تجده سارحًا شاردًا في مكان ما.. وراء فكرة ما أو معلومة ما.. يدخن بحب شديد.. يتكلم بسرعة ولباقة غير عادية وكأنه يقرأ من أوراق غير مرئية.. تشعر أن الكلمات تتدفق من فيه في سلاسة وثقة.. يصمت دقيقة وهو يلثم سيجارته الكليوباترا ثم يعود للحديث بلا توقف.
نهر عذب من الكلمات والأفكار والمعلومات والارشادات وكأنه ولي أمرك أو شيخك وأنت مُريده.. أو حد خايف عليك ويهمه مستقبلك ومصلحتك.. يتحدث بعشق شديد عن أفكاره وفجأة تلمع ابتسامة خلابة على وجهه عندما يعطيك معلومة جديدة أو استنتاجًا أو خطة لبحث ما لشخص ما وكأنه عثر على كنز فكان هذا أول درس تلقفته على يد مصطفى بيومي (أن العطاء أجمل كثيرًا من الأخذ).
لا أظن أن أحدًا في الدنيا مثله على حد علمي.. يسعد سعادة شديدة بالعطاء.. يبتهج بنجاح الآخرين ممن يستحقون.. يفرح لفرح الناس وطلاب العلم بحصولهم على الدرجات العلمية وكأنه انتصار للعلم والعلماء. أذكر أنه غضب عندما علم أنني حصلت على جيد جدًا كتقدير في الماجيستير وقال: ليه مش امتياز يعني؟.. ناس كتير بتاخد امتياز وعادي.. وهم أقل من العادي؟ ولا يهمك المهم الدكتوراه! أنت كويس يا أستاذ كمال.
أما أهم ما سمعته أن مصطفى بيومي لم يفعل ذلك مقابل شيء!! أو معي فقط بل مع معظم مثقفي محافظة المنيا– وقتها – معيدين ودكاترة وأساتذة.. كانوا يستمتعون بجلساته وأفكاره البكر الطازجة وعلمه الغزير والقدرة العجيبة على إيجاد رابط بين معظم الأجناس الأدبية كالرواية والقصة القصيرة والمسرح والشعر، بغية الوصول إلى نظرية نقدية جامعة!!
لا أظن أن أحدأ كتب عن نجيب محفوظ مثلما كتب مصطفى بيومي، حيث شرح وحلل وأفاض وسبر أغوار معظم أعمال أديب نوبل.
إن الموهبة التي منحها الله سبحانه وتعالى والعبقرية الفذة تكاد تكون بلا حدود موغلة في العمق والتنوع.. أذكر أنني زرته في مكتب عمله بالجامعة وجدته كغريق وسط الأوراق وأقلام الرصاص وعشرات السجائر وأكواب الشاي، ورفع رأسه قائلًا: كم الساعة؟ فأنا جالس من الساعة 9 ص ولم أقم من مكاني ولم أشعر بالزمن؟.. وكانت اقتربت من الواحدة ظهرًا.
عدت إلى منزلي وأنا متفائل بحب الأدب وحب العمل وحب الكفاح وحب مصر فلقد حصلت على الدرس المجاني الثاني في حياتي: أجمل شئ في حياتنا وهو أن تفعل ما تحب! ولا تنتظر المقابل! فليس مهما أن تأخذ فالكل حريص على الأخذ لكن المهم هو كيف تعطي؟ ولمن تعطي؟.
وفي جميع التخصصات كان يساعد طلاب الدراسات العليا بأقسام الفلسفة وعلم النفس فضلًا عن طلاب أقسام اللغة العربية وعلومها والإعلام وفروعه والتاريخ والسينما.
أما عن أهم الدروس المستقاة من رحلة كفاح المفكر الجليل مصطفى بيومي هو أننا كلنا زائلون وسيبقى العمل الصالح والعلم الذي يُنتفع به وهو الثروة الحقيقية.. مئات بل ألوف الصفحات والأورق من المؤلفات العلمية في كل أجناس وأشكال الأدب.. حتى السينما وأفلامها العريقة والتعليق عليها والإيمان بدورها الخطير في الواقع المصري وعلى الواقع المصري وأهم مدارس الإخراج السينمائي.
ومعظم تلك المؤلفات تعتمد على التحليل الفني والأدبي والعلمي لا على النقل وترديد الآراء لمن سبقوه من النقاد الذي يعترف بفضلهم عليه ولا ينكر ذلك حتى إذا اختلف معهم فكريًا.
أيضًا من الأدوار المهمة التي لعبها الأستاذ مصطفى بيومي في حياتنا الثقافية هو تعريف الجماهير العريضة والكبيرة بكاتب ما أو مبدع ما لم تتح له فرصة الذيوع والانتشار والشهرة كشهرة نجيب محفوظ، مثل علاء الديب وغيره، وقراءة أعماله وتعريف الناس بهاـ كعبقري الاسكندرية محمد حافظ رجب وغيره الكثير.
أطال الله في عمر مبدعنا الكبير مصطفى بيومي الرجل الذكي النبيل الخلوق ومتعه بالصحة والعافية، المفكر الذي عاش من أجل الكتابة وبالكتابة وللكتابة.. وأظن أنه بكل تلك القيم عاش ألف عام وسيعيش ألف عام أخرى.
كل الحب والتقدير.