انقطعت علاقتي تماما بأهل والدي بعد انفصاله عن أمي وأنا في المرحلة الابتدائية، معظمهم يسكنون الصعيد وقلة تسكن القاهرة، انقطعت علاقتي تمامًا بعماتي وأعمامي ليس بغرض التبرأ أبدًا لصغر سني في تلك الفترة ولكن لأسباب لا مجال لذكرها هنا أو بمعنى أدق لم أعد بحاجة إلى الحديث عنها احترامًا لأهل والدي، لا أنكر أنهم سعوا كثيرًا للتقرب ولعلاقة الدم فيما بيننا ولكن الانفصال أدى إلى قطع كل أواصر الود تمامًا، مرت السنوات وكبرت وتخرجت في الجامعة والتحقت بالعمل بإحدى البنوك وتزوجت وأنجبت ولا أعرف من أهل والدي سوي القليل منهم يهاتفونني في الأعياد دوما، بعد الزواج أهملت الكتابة وتفرغت لأسرتي الصغيرة، مع أواخر عام ٢٠١٧ عاد الحنين إلى الكتابة مرة أخرى، كتبت أشعار ورباعيات وبعض النصوص وقمت بنشرها عبر صفحتي الشخصية، تواصل معي وقتها صديق يتابعني عن بعد علمت فيما بعد أنه ابن عمتي دكتور أحمد صالح أستاذ علم الفيزياء بجامعة جازان، وفي إحدى المرات تواصل معي وسألني «أنتي مي بنت خالي مختار أنتي شبهه»، ألجمتني كلماته وأسعدني التواصل معه الذي تأخر أعواما كثيرة كان الانفصال بين أبي وأمي سببا فيه، سألني «أنتي بتكتبي شعر وقصص زي خالي مصطفى بيومي»، بادرت بسؤاله «مين مصطفى بيومي معرفهوش»، أجاب «عمك ابن خال أبوكي على بيومي ده كاتب وروائي كبير ازاي بتكتبي ومتعرفيهوش»، بحثت بعدها عن صفحة الكاتب مصطفى بيومي وأمام صورته الشخصيه آمنت بالاستنساخ في البشر وكأن أبي عاد مرة أخرى للحياة علما بأنه وقت أن كان عمري خمس أو ست سنوات كان عمي مصطفى وقتها طالبا في كلية الإعلام، أرسلت بعدها لعمي مصطفى طلب صداقة وعلى ما يبدو أنه تردد قليلا قبل القبول، بعدها تواصل معي عبر الفيسبوك وسألني «هو أنتي مي بنت مختار» اجبته بنعم أيوه أنا، استأذن برقم هاتفي وصارت بعدها الأمور سريعة، هاتفني تبادلنا الحديث عن أحوالي وهوايتي في الكتابة وطلب اللقاء به في مقر عمله بجريدة البوابة نيوز وأنهى المكالمه معربًا عن سعادته بأنني على قيد الحياة ولي نفس اهتماماته في الكتابة، اللقاء الأول بيننا لن يمحي من ذاكرتي أبدًا، حاصرتني الأسئلة، ماذا سأبدو له بعد سنوات الغياب، ماذا سيبدو هو لي، أنا ذاهبة للقاء شخص أقرب الشبه بوالدي ما شعوري لحظة اللقاء، هل أعنفه على الغياب أم أصافحه بحرارة، ماذا أخبره عني، طرقت باب مكتبه مرتبكة وقلقة، أذن لي بالدخول، رأيته جالسا خلف مكتبه مع أوراق كثيرة مبعثرة وأقلامه الرصاص التي لا تفارقه الكتابة والعديد من أقداح القهوة الفارغة والكثير من رماد وأعقاب السجائر بالمطفأة، تصافحنا وجلست أمامه ودقات قلبي لا أستطيع أن أوقفها، لمح هو قلقي وأطال النظر إلى لثوان دون أن يتفوه بكلمة واحدة وكأنه يستعيد ذكريات وحكايات سنوات بعيدة مضت تركت بعض ملامحها على فتاة صارت امرأة في آواخر الأربعين، أخفي دخان سجائره ملامح وجهه، قاطعت بدوري الصمت بيننا بعد سماع صوت المطربه نور الهدى على جهاز الكمبيوتر القريب من مكتبه وسألته، «حضرتك بتحب نور الهدى»، أجاب «بحب اسمع كل القديم»، سألني عن أحوالي جميعها وعن أسرتي الجديدة وأعرب عن سعادته بلقائي، الحديث امتد بيننا قرابة الساعتين وأكثر، كنت أسرد وأحكي عن تفاصيل حياتي منذ كنت طفلة حتى صرت مديرة محترمة، يسمع هو باهتمام ويراقب انفعالاتي من سعادة وحزن، حركات رزينة وأحيانا طفولية، بعد أن أنهيت الحكي فوجئت بطلبه، قائلا «عاوزك تكتبي كل اللي أنتي قولتيه ده بالتفاصيل دي وتجيبهالي أقراها مكتوبة، انسى الشعر أنتي مشروع روائية جيدة»، في جلستنا تلك أخبرني أن المرات القليلة التي التقي بي فيها في منزل جدتي كنت بضفيرة وفستان، طفلة هادئة صامتة على حد قوله وقت أن كان هو طالب بالجامعة، رافقني بعد اللقاء إلي باب الأسانسير وذكرني بكتابة ما سردت وعدم الانقطاع عن التواصل مرة أخرى، اجتهدت وكتبت والتقينا بعدها مرات ومرات عديدة داخل الجريدة وفي منزله، فتح لي أسرار خزائن الكتابة وصرنا صديقين وفتح لي خزائن أسراره أيضا، التقيت به مجددا ومعي أوراق الحكي ووضعتها أمامه، تصفحها سريعا وقال «دي هتبقى رواية هايلة، سبيها أقراها على مهلي»، وتحولت بعدها الأوراق إلى رواية اختار لي هو اسمها «شفق»، راجعها بنفسه وصحح الأخطاء وحذف ما حذفه بعدها قمت بطبعها في دار المعارف، وأول ندوة تقام لعمل يخصني في حياتي عن بحضور مصطفى بيومي الذي أدار ندوة الرواية في مكتبة دار المعارف بوسط البلد، بعدها أصدرت مجموعتي القصصية وكان لي عظيم الشرف حضوره إدارة الندوة وبحضور الصديقات الصحفيات الداعمات لي وقتها سمية عبد المنعم وحنان أبو الضيا وأماني القصاص والغالية مني ماهر.
كاتبنا الكبير الروائي الحكيم مصطفى بيومي
لا يملك النهر تغيير مجراه
والفارس لا يتخلي عن جنوده في المعركة
أن تموت وأنت تكتب
أن تكتب حتى لا تموت
في محبة الكاتب والروائي الكبير مصطفى بيومي