في أبريل 2018، وكنت وقتها لا أزال محررا في القسم الثقافي بجريدة "البوابة"، طلب مني رئيس القسم -آنذاك- أن أكتب عن الفنان الراحل محمود مرسي؛ ليس عن تلك الأعمال التي يعرفها الجميع، لكن أن أكتب عن وجه المثقف الذي يجهله الكثيرون. وبالفعل، غرقت في عالم الفنان الراحل بضعة أيام، ثم خرجت بصفحة كنت آمل في أن تكون لائقة باسمه.
عندها، عرفت مصطفى بيومي لأول مرة.
كان الرجل ذا سمعة صارمة - تكاد تكون مخيفة- تُضرب بها الأمثال في الدقة والالتزام؛ وكان الأدب والفن ساحته، والثقافة ملعبًا تمرس فيه أكثر من نصف قرن. وبينما كنت أعتقد أن رجلا بهذه الأهمية لابد وأن يكون بنفس الانشغال، حتى أنه لن يلتفت إلى ما كتبت.
لكني كنت مخطئا.. وكانت هذه أول مرة!
فوجئت بالرجل الذي كان مكتبه يقع في أحد الطوابق العليا من المبنى يدلف إلى الغرفة التي أتشارك فيها مع الزملاء في هدوء. تقدم بضع خطوات، ثم دار بعينيه في الشبان الثلاثة الجالسين وسأل عن اسمي. ارتبكت، هززت رأسي في إجابة متلعثمة، تحرك نحوي بضع خطوات، وبنفس نبرته الهادئة قال: "أنت عرفت تتكلم عن محمود مرسي كمثقف مهم. أحسنت يا إبني". وربت على كتفي، ثم غادر المكان في هدوء.
بعد بضعة أشهر، كان لقاؤنا الثاني، الذي كررت فيه الخطأ نفسه إن جاز التعبير. كان هذا عندما أصدرت روايتي الأولى "الحامي"، والتي حالفها الحظ العاثر تجاريًا - مثل العديد من الأعمال- ووقتها، بتشجيع من الزميل حسام الحداد، ذهبتُ لأهديه إحدى نسخ الطبعة الأولى. كان خطأي أنني اعتقدت أن ذلك الرجل شديد الانشغال، والذي يكرّس وقته للكتابة حول أعمال الكبار، لن يجد وقتًا لتصفح أوراقي؛ واعتقدت أنه - في أحسن الأحوال- قد يتركها إلى جوار أعمال هؤلاء الكبار على مكتبه.
لكن بعد اسبوع واحد فقط فوجئت باستدعائه لي.. قابلني بابتسامته الهادئة ونبرته المعتادة، طلب مني الجلوس وبدأ يتحدث عن روايتي!
هنا، كان الذهول قد بلغ مني مبلغه! فلم تكن مجرد قراءة عابرة، بل رؤية كاملة وبصيرة ثاقبة لم أجد مثلها من قبل.
كان الأستاذ خلال حديثه يقوم بتشريح الرواية وإعادتها إلى أصلها، كان يتحدث مرجحًا الخطوات التي قمت بها خلال كتابة الرواية التي استمرت 6 سنوات كاملة؛ لكنه كان يتحدث وكأنه شاركني خطواتها، حتى أن بعض الفصول التي توقعت ألا يدرك أحد مغزاها وجدته يشرحها لي ويناقشني فيها بمنتهى الدقة.
أما الأكثر روعة، أن رجلًا بهذا القدر العظيم قرر أن يكتب عن جانب من الرواية في موسوعته الهامة "اليهود في الرواية المصرية.. الاندماج والقطيعة" - والتي كان وقتها لا يزال في مرحلة إعدادها وكتابتها- بل، ومنحني الفرصة أن أقرأ بخط يده ما كتب عنها. ولك أيها القارئ أن تتخيل ما الذي يعنيه هذا لشاب يصدر روايته الأولى.
وتوالت اللقاءات البسيطة بما يسمح به وقت الأستاذ؛ وكان - ولا يزال - في كل لقاء يسألني: ما جديدك في الكتابة؟
وهكذا قابلت شيخي مصطفى بيومي، الرجل الذي عشقته من عشقه للأدب، وزاد عشقي عندما جاورته قليلًا.