"لا آمل في شيء.. لا أخشى شيئًا.. أنا حر".. كلمات مضيئة يوصي الكاتب اليوناني العظيم نيكوس كازنتزاكي بأن تُكتب على شاهد قبره، ومنذ مطالعتي لها للمرة الأولى منذ عشرات السنين، أجد فيها خلاصة الحكمة وسر أسرار الوجود. الزهد المردود إلى الترفع ولذة الاستغناء، التحرر من الخوف وعبودية الحاجة، معانقة الحرية؛ فهل من نجاح يفوق أن تقترب من الوصول إلى محطة النهاية مسلحًا بزادٍ كهذا؟
ما الثروة الحقيقية التي يحق للإنسان، أي وكل إنسان، أن يفاخر بها ويباهي؟. أزعم أنها في الحب وما يترتب عليه من رضا وتوازن نفسي وتصالح مع الحياة والأحياء. كل ثراء مادي حتمي الاندثار والفناء، والسلطة لا تدوم، وعندما يُصاب المرء بداء الحكمة فيتأمل ماضيه وحاضره، ويفكر في القليل الذي يتبقى من رحلته، لا مهرب له من البحث عن إجابة للسؤال الفارق: ما الذي يذكره الناس عني بعد غيابي؟. إذا كانت اللعنات تنصب عليك فهذا هو عذاب الجحيم، وإذا كان الغالب هو الدعاء بالرحمة والمغفرة فهذا هو الفردوس.
على مشارف الخامسة والستين، المحطة التي أصل إليها في ديسمبر القادم، أسعد وأنتشي بمشاعر الحب التي تحيطني وتعينني في اكتشاف ما كان خافيا عني من ثرائي الفاحش الذي لا أعي كل أبعاده. الرغبة الصادقة في الابتعاد عن الساحة الثقافية التي تزداد قبحا وتوحشا، عبر الإعلان عن قرار بالتوقف عن النشر، تصاحبها موجة من الاحتجاج الذي ينبع من الحب والعتاب، والأغلب الأعم من الرافضين لما اعتزمته ممن لا أعرفهم ولم أشرف بلقائهم من قبل، والأقلية القليلة هم الأصدقاء الذين يعرفونني جيدا ويبادرون بالسخط والتذمر، مدركين أن الكتابة هي حياتي، والتوقف عنها بمثابة الانتحار أو الشروع في الانتحار!.
طوفان الحب يبرهن لي عمليا على أن العمر لم يضع عبثا، والتقدير الذي أجد فيه أحيانا مبالغة لا أستحقها، يسعدني وينعشني ويقف بي على عتبات البهجة.
بعد دقائق من الكلمات التي نشرتها، اتصل بي من باريس عبدالرحيم علي، صديق العمر ورفيق العمل الدءوب ضد الفاشية الدينية واستبداد الكهنة، يرفض ويعتب، ويمنحني بكلماته الحافلة بالمودة شعورًا لا تصفه مفردات اللغة الشائعة المعروفة، ثم كانت مبادرته الكريمة بتنظيم احتفال تكريم في "البوابة"، مع إصدار عدد خاص من الجريدة عن الذي قدمته عبر نصف قرن تقريبًا.
سعدت بجلسة دافئة ممتعة شارك فيها، مع حفظ الألقاب، الأصدقاء والأحبة: أحمد صوان وإسلام عفيفي وبهاء إبراهيم وحسام الحداد وحنان أبوالضياء وخالد عبدالرحيم وخليل المنيسي وداليا عبدالرحيم وروبير الفارس وسالي سعيد وسليمان شفيق وسمية أحمد وشروق مصطفى وعادل الضوي وعزت البنا وفاطمة عبدالغني ومجدي الدقاق ومحمود حامد ويسري عبد الله، مع الاعتذار لمن لم تسعفني الذاكرة بتذكر أسمائهم، فضلا عن زوجتي وأبنائي وأحفادي. كنت أتأمل المشهد في فرحة لم أعرفها من قبل، ليس فحسب لأن كلمات الثناء قد انهمرت بما يفوق قدرتي على الاستيعاب، بل أيضا لأنني أدركت مجددًا أن العمر لم يذهب عبثا.
"المتلفت لا يصل".. شعار اجتهدت طيلة عمري للسير على هداه، ذلك أنني أحب الكتابة وأجد فيها المتعة واللذة والتحقق. لا شيء يشغلني عنها، ولا تفكير في التملص منها، ولا تراجع عن الإيمان بأنها الغاية والهدف.
التزمت قدر طاقتي بالموضوعية واحترام من أكتب عنهم ولهم، وقد يصيبني الضيق في أحيان نادرة من تجاوزات مسيئة فأرد بالإساءة، لكن هذا هو الاستثناء لا القاعدة، ولا بأس هنا من الاعتذار لمن أكون قد تجاوزت في حقهم مدفوعا بالحماقة التي برئت منها والغضب الذي تخليت عنه مع كرور السنين.
عدد خاص من "البوابة" عني؟، وكل هذه الكتابات الحافلة بالحب والتقدير؟
هذا مما يفوق الأحلام بطبيعة الحال.
كان أول ما فكرت فيه: سأترك لكل حفيد من أحفادي نسخة من العدد، وذات يوم قريب أو بعيد يطالعون ما كُتب عن جدهم فيشعرون بالرضا، ويقولون: كان رجلًا جيدًا، يتقن أن يحب ويُحب.
جميلة، سليم، سيف، فريدة، فيروز، لارا، ليلى، لي لي، يحيى، يونس؛ لا شيء أتركه لكم إلا الحب والسيرة التي أرجو أن تكون قليلة العكارات والشوائب.. ولا أظنه بالميراث القليل.
دعوني أقول لكم ما قاله العظيم برتولت برخت:
"آه.. نحن الذين أردنا أن نمهد الأرض للمحبة
لم نستطع أن يحب بعضنا بعضا
أما أنتم..
فعندما يأتي اليوم
الذي يصبح فيه الإنسان صديقا للإنسان
فاذكرونا وسامحونا"