إدريس غالى تخرّج فى مدرسة جراند إيكول وسط باريس (Grandes écoles (Centrale Paris، EDHEC) ) وهو كاتب ومحاضر سياسى وله العديد من الكتب وله رؤية عميقة وأحيانًا صادمة فيما يخص القضايا المعاصرة. كما يهتم بدراسة العنف بجميع أشكاله.. موقع "لو ديالوج" أجرى معه الحوار التالى..
أوضح الكاتب والمحاضر السياسى المغربى إدريس غالي، أن الدولة بالنسبة للفرنسيين كالأب أو الأم، وأن النخبة تحرم الفرنسيين من الأيقونات والنماذج البشرية الملهمة؛ متسائلًا: لماذا لم يعد لدينا رجال جيدين وأقوياء من الفرنسيين الأصليين أوالمهاجرين؟. وقال «غالى»، فى حوار خاص مع موقع «لو ديالوج»: إذا فقدنا فرنسا فلن يكون لدينا ملجأ ولا وطن، ونحن الآن فى مواجهة خطر أن نكون نسخة من البرازيل أو الأرجنتين؛ مشيرًا إلى أن "المهاجرين الذين يتحدثون فى وسائل الإعلام هم من يدمرون فرنسا". مزيد من التفاصيل فى نص الحوار التالي:
■ تروى لنا سيرتك الذاتية أنك مغربى الأصل مسلم تجيد الفرنسية وتعيش فى البرازيل منذ ١٠ سنوات ومتزوج من سيدة برازيلية تزور فرنسا مرتين كل عام على الأقل. وقد نددت فى كتابك «أسلمة البلاد وأمركتها». وذكرت أن الفرنسيين تخلوا عن التراث الأخلاقى الذى ورثته الأجيال السابقة من العظمة والقوة. فما الأسباب التى دفعتك لكتابة هذا الكتاب؟
- لقد كتبت هذا الكتاب لسببين؛ أحدهما غير أنانى تمامًا، والآخر أنانى تمامًا؛ لنبدأ بالدافع غير الأنانى وهو مرتبط بالجميل الذى أحمله لفرنسا تلك الدولة التى أنفقت على تكاليف تعليمى وأعطتنى لغة وذوقًا وعادات وفى كل مرة أزور فيها فرنسا لا أجد تلك الأمة العظيمة التى أعجبت بها كثيرًا فى سنوات شبابي، بل أجد مجتمعا فى انحدار كامل حيث تتدهور السلوكيات والقيم والأذواق بشكل كبير.
فى ظل هذه المناخ فإن إغلاق عينيك والتزام الصمت يعني؛ إظهار الجحود إن لم يكن حماقة لأنه إذا فقدنا فرنسا فلن يكون لدينا ملجأ ولا وطن لأن الوطن هو المكان الوحيد الذى تكون فيه عواطفنا مرتاحة تمامًا. يمكننا أن نعيش فى الخارج مثل دبى أو بودابست لكننا سنعيش جميعًا هناك مثل عديمى الجنسية أو "كلاجئين ثقافيين" منزعجين باستمرار من عادات الآخرين ومضطرون دائمًا على التكيف مع الأعراف الغريبة عنا.
إنها محنة مؤلمة لا أتمنى أن يتعرض لها أحد بعد أن عشتها بها بنفسى فى عدة مناسبات وأرفض خوض هذه المخاطرة مرة أخرى؛ لذلك من الضرورى للغاية أن تظل فرنسا هى فرنسا، حتى لو وصفنى بعض الفرنسيين بالمتطرف ولكنهم سيعرفون أننى على حق بعد ذلك.
■ مع ظهور مثل هذه المصطلحات: ستاربكس والأقلية المعزولة وحركة الوكيزم "wokism" واختفاء الطبقة الوسطى؛ فإنك تدين محاولات توحيد العالم وجعله متشابها من خلال أداء متواضع، والذى يؤثر أيضًا على البرازيليين والمغاربة.. وطبقا لتعبيرك فى كتابك، كيف أصبحت فرنسا "فرنسا- شجرة البونساي"؟
- لقد تضاءلت فرنسا عبر الثلاثين سنة الماضية ذلك أنه لبناء أوروبا تم اقتطاع صلاحيات كثيرة من فرنسا بدءًا من حقها فى تقرير المصير وأصبحت تدار كما تدار كوحدة فى مؤسسة حيث تقوم بتنفيذ سياسة تم صياغتها فى المكتب الرئيسى فى بروكسل. الأمر الذى أدى إلى تجنيد النخب السياسية: لقد انتقلنا من رجال عظماء مثل ديجول أو مينديز فرانس إلى فوضى لا تقوم إلا بنسخ الأوامر الصادرة من صانع القرار.
وامتد هذا المنطق ليشمل جميع مجالات الحياة بدءًا من تقلص سيطرة فرنسا على عديد من الأراضي. ولم تعد "سيادة الدولة" تمارس إلا بشكل نتردد فى عدد من الجيوب "المحررة" مما يقلل من هيبة الدولة وثقة الشعب فيها. أخبرنى من هو المحافظ القادر اليوم على التنزه فى المدينة! لا أحد. وفى المقابل استطاع الجنرال ليوتى فى عهده أن يعقد مجلسًا بين القبائل المغربية التى كانت تحت سيطرته بل وأجبرهم على طهى لحم مشوى لهم!
وفى مجال الفنون والآداب والاقتصاد ضاعت هيبة "شجرة البلوط" المهيبة وفقدت بريقها ولم تعد الشجرة الأكثر إثارة للإعجاب فى الغابة. لقد أصبحنا مثل بلغاريا أو بلجيكا دولًا مبتذلة بدون دعوة عالمية. لقد أصبحت فرنسا كالعصارة ولكنها لا تسرى فى الأوردة نحن الذين رفضناها ولم نعد نريدها نحن الذين نبذنا التميز الأكاديمى والجدارة نحن الذين أدارنا ظهورنا لهويتنا المسيحية لنصبح مستهلكين بسيطين نحن الذين اخترنا أمركة ثقافتنا وعاداتنا.
■ لقد توصلت إلى نتائج دامغة لأنك وصفت الشعب الفرنسى بأنه شعب النخبة وأن فرنسا هى "منارة" للعالم لأنها تحولت إلى توليفة قيّمة تجمع بين درجة عالية من إعادة التوزيع وخلق ثروة قوية.. الأمر الذى فشل الأمريكان فى فعله على سبيل المثال؛ فلماذا نحن هنا؟ وما هى عوامل التراجع فى فرنسا؟
- لقد ذكرت فى الكتاب شرحًا مفصلًا لما قادنا إلى الوضع الحالى ويتعلق الأمر بثلاث حالات تراجع: لقد تخلينا عن السلطة عندما أسأنا استخدامها وخضعنا للعبودية والاستعمار. لقد تخلينا عن الشعب باستبدال الفرنسيين بالمهاجرين الذين نعطيهم الأوراق الفرنسية باعتبار أن هذا سيكون كافيًا لجعلهم فرنسيين. لقد تخلينا عن نقل العبقرية الفرنسية التى هى الحساسية وطريقة تفكير أسلافنا والمكان الرئيسى الذى كان شاهد عيان على هذا التنازل هو المدرسة بالطبع.
عندما نجمع بين هذه التنازلات الثلاثة، فإننا نكون قد خنقنا فرنسا وتراجع أداؤها الثقافى والجمالى والاقتصادى والعلمى وهذا ليس سرًا: لكى تظل شعبًا من النخبة، عليك أن تدرب نخبة المواطنين.
■ كثيرا ما تستخدم تعبيرًا "قويًا جدًا" فى كتابك عند الحديث عن فساد النخب فى فرنسا حيث قلت إن "النخب الفرنسية تتبول فى منبع الماء النقي"، أى فى ذاكرة الناس.. ما هى الرسالة اللاشعورية التى ترسلها إلى الفرنسيين عن تلك النخبة؟
- فكرة التبول فى منبع المياه النقية هو أسطورة سوداء لفرنسا بتبنى قراءة خبيثة لتاريخها؛ ففى المدارس يتعلم الأطفال كراهية بلدهم وبالتالى كراهية أنفسهم خاصة أنهم يتعلمون أن فرنسا كانت شريكة للنازية بينما كانت ضحية لها.
كان هناك أكثر من مليونى سجين فرنسى فى ألمانيا! فى المدارس يتعلم الأطفال أن يخجلوا من الاستعمار فى حين أن الاستعمار يضرب بيد ويسلم باليد أخري.. مع أن فرنسا أنقذت المغرب الذى كان فى طور الانحلال وأنقذت شعب الخمير الذين كانوا فى طريقم الى الذوبان فى بوتقة التايلانديين والفييتس.. وحررت العبيد فى أفريقيا السوداء.
إلى جانب هذه الأسطورة المظلمة فاننا نلقن الفرنسيين الضعف عندما نقول لهم بطريقة لا شعورية: "عندما كنت قويًا، أسأت استخدام قوتك من خلال الاستعباد والاستعمار ولذلك من الأفضل أن تكون ضعيفًا حتى لا تكرر ذلك مرة أخرى".
اننا عندما ننتقد ريشيليو (الرمز الأسود) أو ليوتى (الاستعمار) فإننا بذلك نهدم الرموز الفرنسية العظيمة التى أظهرت فضائل استثنائية. صحيح أنهم ارتكبوا أخطاء لكنهم أيضًا خدموا هذا البلد بجرأة ونكران ذات.
إن النخبة تحرم الفرنسيين من الأيقونات والنماذج البشرية الملهمة. وتقدم لهم "رجالا صغارا" غير فاعلين فى شكل نشطاء أو لاعبى كرة قدم وتطلب منهم إبداء الإعجاب بهم. إن حرمان شعب من أسلافه المجيد هو عنف بل جريمة.
■ وصفت الشعب الفرنسى بأنه منضبط وقوى وعانى من الهجرة ودفع الكثير من الضرائب.. إذا أخذنا على سبيل المثال نظام التعليم الفرنسى فكيف يمكن أن يقبل الفرنسيون بخفض المستوى؟
- الفرنسيون يؤمنون ببابا نويل! ويعتقدون أن الدولة تريد لهم كل الخير. وهم بذلك يختلفون عن سكان شمال أفريقيا وجنوب الصحراء الذين لا يثقون فى الدولة؛ فالدولة بالنسبة للفرنسيين كالأب أو الأم واذا طلب منهم الأب أن يقفزوا إلى الهاوية فسوف ينصاعون للأمر مما يعطى الإذن للاستبدال الكبير على سبيل المثال. إذن انهيار التعليم جاء من هذا المنطلق.
■ هل يمكن أن نتحدث عن العودة إلى ظاهرة "الاستوائية" التى تؤثر على فرنسا وتحاكى سلوك القلة فى أمريكا الجنوبية؟ ما هى المخاطر؟
- نحن فى مواجهة خطر أن نكون نسخة من البرازيل أو الأرجنتين، أن نكون فى بلد يتمتع فيه الأوليغارشية بتفويض مطلق، حيث المؤسسات متقلبة وغير فعالة وحيث يقبل الناس عدم المساواة والعنف المفرط.. إننا على الطريق الصحيح. انظرى كيف تعامل الشركات الكبيرة العملاء. كنت مؤخرًا فى أحد فنادق إيبيس باريس حيث صرخ موظف الاستقبال فى وجهى لأننى تجرأت على طلب وسادة! كما أن البنوك لا تجد أى حرج فى فرض رسوم على إدارة الحساب السيئة. وهذا بسبب الاحتكار مما يسمح للمساهمين بفرض قانونهم على العملاء. هذا هو بالضبط ما تشهده أمريكا اللاتينية منذ ثمانينيات القرن الماضى فى ظل العائلات الكبيرة التى تمتلك وسائل الإعلام، وتوزيع المياه، وخدمات الحافلات، والبنوك، والبناء، وما إلى ذلك.
والمؤسسات ليست بمعزل عن ذلك إذ تمارس "ظاهرة الاستوائية". ولننظر إلى التدهور المؤلم للمناقشات فى الجمعية الوطنية وإلى الجودة المتدهورة للخدمات العامة وإلى الأكاذيب المخزية التى تمارسها الحكومة الحالية فى العديد من الموضوعات؛ فالوزراء يتناقضون باستمرار مع بعضهم البعض و"يروون حكايات طويلة" بثقة كبيرة. ولنذكر سيبث ندياى التى انتقدت ارتداء القناع فى عام ٢٠٢٠.
والناس تقبل عن رضا كامل اللامساواة والبربرية؛ فلم أر ولم أسمع عن مظاهرة ضد رواتب لاعبى باريس سان جيرمان أو ضد تراخى الحكام.. إن ما يفصلنا عن أبناء عمومة أوروبا البعيدين التى هى بلدان "أمريكا اللاتينية" مجرد محطات وليست مسافات جوهرية.
■ ترى أن الفرنسيين ينتخبون القادة السياسيين المسئولين عن خروج شعبهم من التاريخ عن طريق هجرة المواطنين والتنازل عن السيادة لصالح الاتحاد الأوروبي.. هل تعتقد أن المهاجرين هم الذين سيعيدون الثقة للفرنسيين بعظمة بلادهم مثلما المارشال ليوتى الذى أعاد الكبرياء والفخر لشعب المغرب بفضل الوحدة الوطنية المغربية؟
- إدريس غالي: إن المهاجرين الذين يتحدثون من خلال وسائل الإعلام (تليفزيون فرنسا، فرانس إنتر. إلخ..) هم بالتحديد الذين يقومون بتدمير فرنسا وأنا هنا أتحدث بشكل عام ولكن للأسف هذا هو ما يحدث فى الواقع بنسبة فى ٩٠٪.
لقد كان ليوتى أجنبيًا فى المغرب لكنه كان رجلا نبيلا: رجل طيبا وقويا.. السؤال الذى يفرض نفسه هو: لماذا لم يعد لدينا رجال جيدين وأقوياء سواء من الفرنسيين الأصليين أوالمهاجرين؟
بصرف النظر عن لون بشرة القائد الذى يقع عليه مسئولية إنقاذنا أولًا ومع ذلك فإنى أرى أن المشهد العام حافل بالعديد من المعلقين والفنانين ولكنى لا أرى إلا القليل ممن يحمل سمات القائد الاستثنائي.. فأغلب المهاجربن قادمون من حضارات مريضة كالحضارة المغربية المتورطة فى التخلف والفساد؛ فلا أرى أمل فى أن يأتى المنقذ من هذا الجانب وبالرغم من ذلك يمكن لرجل عظيم أو امرأة عظيمة أن يأتى من حيث لا نتوقع.
وبالنسبة لى فسوف أكون بجانب هذه القيادة بكل ما أملكه من موارد قليلة كل ذلك لأننى لا أتحمل أن أرى فرنسا تموت!