قبل شهور قليلة من تنحي الراحل البابا بنيدكتوس السادس عشر عن قيادة الكنيسة في العام ٢٠١٣، تحدث رئيس الأساقفة الشرفي لميلانو وقتها اليسوعي كارلو ماريا مارتيني داعيا البابا والاساقفة للبحث عن اثنى عشر شخصا من خارج الإطار الكنسي المعتاد ليتولوا أدوارا قيادية بالكنيسة. لعل في دعوة الكاردينال الراحل صلة مباشرة بما آلت إليه أحوال الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد مع نهاية حبرية كلا من البابا يوحنا بولس الثاني وبنيدكتوس السادس عشر، أحوالا وصفها الكاردينال مارتيني ذات مرة بأنها تشابه انطفاء جمر الكنيسة المشتعل، او كما وصفها تحديدا ب "الكنيسة المُجهّدة."
قبيل وفاته بأشهر قليلة وبالتحديد في صيف العام ٢٠١٢ اجرى الكاردينال مارتيني ذو الخامسة والثمانون عاما مقابلة صحفية مطولة أوصى ألا يتم نشرها إلا بعد وفاته التي حدثت في سبتمبر من ذات العام، تحدث الكاردينال البارز في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية المعاصر برؤية نبوية للمرة الاخيرة عن حاجات الكنيسة من أجل استعادة جمر حضورها وارساليتها في العالم واصفا حال الكنيسة بالمتأخر عن حركة العالم لما يقرب من مائتي عام، ومتسائلا عن حاجتها لصدمة قوية تستعيد بها شجاعة الرسالة بدلا من الخوف المنحصر في البقاء داخل جدرانها؟، مضى الكاردينال الإيطالي واصفا تلك الكنيسة المجهدة قائلا: " لقد شاخت ثقافتنا، كنائسنا ضخمة، وبيوتنا الدينية فارغة حيثما هيكل الكنيسة البيروقراطي يتضخم، وباتت طقوسنا اكثر آبهة."
جائت نداءات مارتيني لتعكس حاجة الكنيسة الى استثمار إرثها المادي في سبيل توحيد البشر للتقارب من الفقراء واستثمار طاقات الشباب في اكتشاف كل ما هو جديد. استكمل الرجل دعوته الجريئة موجها حديثه للبابا والاساقفة من أجل إحداث تحول في نهج قيادة الكنيسة بداية من فحص أخطائها وتبني نهج تغيير إصلاحي يقوده البابا والاساقفة رفقة أولئك الاثنى عشر الغير كنسيينن.
ليس غريبا على الكاردينال الإيطالي اليسوعي مثل هذه الدعوات النبوية والتي ينظر إليها الكثير من الكاثوليك المحافظين باعتبارها تهديدا للكنيسة من وجهة نظرهم بينما يراها مارتيني تعزيزا لقدرة الكنيسة على التعاطي مع السياقات المتباينة استنادا لعمق إيمانها وهذا تحديدا ما عناه الرجل عندما تحدث عن قيمة سر الافخارستيا مؤكدا: "ان سر التناول ليس وسيلة للتعبير عن الالتزام الكنسي، بل لمساعدة الرجال والنساء عندما يختبرون أوقات الضعف في حياتهم...الأسرار المقدسة ليست أدوات تأديبية، ولكنها معونة للناس في زمن رحلتهم الأرضية على مواجهة نقائص الحياة."
ما يعكس بالاحرى توجهات مارتيني الداعية لكنيسة أكثر حضورا في العالم هو دعوته وقتما كان رئيس أساقفة ميلانو لتخصيص مقاعد بالكنيسة لغير المؤمنين كعلامة على انفتاح الكنيسة على قبول الغير مؤمنين لا بل تفهم منطقهم في عدم الإيمان، مبينا حضورهم بالكنيسة على ما يختبره المؤمنين من لحظات الشك وعدم اليقين ومن ثم الحوار الداخلي الممتد بين أسباب الشك ودوافع الإيمان بداخل كل انسان وهو ما تعرض له مارتيني في كتابه بماذا يؤمن الغير مؤمن؟ في هذا الصدد يتحدث الكاردينال مارتيني مبينا ذلك الحوار الحادث بداخل كل انسان قائلاُ: "أصر على أنه بداخل كل احد منا مؤمن وغير مؤمن يتحدثان معه، يتساءل كلًا منهما عن الآخر... حيث الغير مؤمن يؤرق المؤمن، والعكس صحيح." بحسب مارتيني فالعالم ليس منقسمًا بين مؤمنين وغير مؤمنين بل بين اولئك الذين يفكرون والآخرين الذين لا يفكرون.
من هذا المنطلق فقد تم اختيار الكاردينال مارتيني للخدمة كرئيس لمجلس المؤتمرات الأسقفية الأوروبية في الفترة ما بين 1986 وحتى 1993 لما كان يتمتع به الرجل من حضور وشخصية جذابة منفتحة على الحوار مع اليهود والمسلمين ومختلف الطوائف المسيحية حيث كان صوته مسموعًا لدى الطوائف الارثوذكسية والانجيلية العالمية.
في العام 1999 وامام مجمع الاساقفة الذي ركز فيه البابا يوحنا بولس الثاني على الحالة الأوروبية عقب انهيار حائط برلين وسقوط الشيوعية، رفع الكاردينال اليسوعي مارتيني رئيس اساقفة ميلانو صوته معلنا بجرأة عن "حلمه" ورؤيته لمجمع يتحلى بالشجاعة لمواجهة مشكلات العصر المُلحة حينها، وربما لازالت مٌلحة الى اليوم، وهي: تشاركية إدارة الكنيسة، التناقص الشديد في أعداد الكهنة، موقع المرأة في المجتمع الكنسي، مشاركة العلمانيين، الجنس، الانضباط الكاثوليكي في الزواج، المسكونية. لم تستطع اعلى رتب الكنيسة الكاثوليكية حينها التجاوب مع حلم مارتيني أو حتى الاجابة على ما طرحه من مشكلات، وربما حتى الباباوان يوحنا بولس الثاني او بندكتوس السادس عشر لم يرغبا في مواجه مباشرة للإجابة على مثل هذه التساؤلات والتي ربما بدأ البابا فرنسيس في التعاطي مع بعضها.
ربما يرى البعض مغالاة من جانب الكاردينال الإيطالي اليسوعي الراحل في طرح بدائل وحلول تساعد الكنيسة في مواجهة تحديات حضورها وارساليتها في العالم مع نهاية قرن وبداية آخر، غير أن توصيفه لمشكلات الكنيسة وبصفة خاصة نمط قيادتها وإدارتها الذي ينعكس في سلوك خدامها واساقفتهاوكهنتها هو الذي دعى الكثيرين وربما البابا الحالي فرنسيس من بينهم لتبني نهج يعكس أكثر قدرة الكنيسة وحاجتها على تقديم نموذج مختلف عن ذلك الذي ظلت الكنيسة من خلاله كيانا جذابًا بفضل هيكليتها وطقوسها وزهو ممثليها اكثر من تعميق ارساليتها وحضورها في وسط إشكاليات العالم ومشكلات البشر لتسير الى جوارهم بدلًا من ان تنظر لهم من شرفات السيارات الفارهة أو المكاتب الواسعة.
بالرجوع إلى حديث مارتيني الأخير نجد الرجل يُلح على حاجة الكنيسة لاشخاص من خارج الإطار الكنسي، غير تقليديين وليسوا من حاشية احد ولا مصالح لهم ولا يبالون بتقديم مساهمتهم في سبيل أن تسترجع الكنيسة جمر حرارتها بأتباع الروح القدس ذلك الذي اشار اليه لاحقا البابا فرنسيس مؤكدًا على أن مسيرة السنودسية في الكنيسة هي محاولة الاستماع الى صوت الروح القدس القادم عبر أولئك البعيدين في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية حيث أحوال الفقر والالم والتهميش والبعيدين عن الكنيسة وبالأحرى عن قادتها.
في مقابلته الاخيرة وصف مارتيني الداء والدواء قائلًا: "لقد انطرحنا إلى أسفل بفعل الحياة المرفهة. نجد أنفسنا أصبحنا على مثال الشاب الغنى الذي مضى حزينًا؛ عندما دعاه يسوع ليصير تلميذه. أنا أعرف أنه ليس من اليسير ترك كل شيء. على الأقل يمكننا إيجاد أناس أكثر تحررًا ومقربين من جيرانهم، بالمثل كما كان الأسقف روميرو، وكما كان يفعل شهداء السلفادور اليسوعيين. أين هم الأبطال الملهمون بيننا؟...كيف يمكن تحرير الجمر من الرماد من أجل إعادة إضاءة شعلة الحب؟ أنصح البابا والأساقفة بالبحث عن اثني عشر شخصًا من خلف الحدود الكنسية ومنحهم الوظائف القيادية، أُناس يكونون أكثر قربًا إلى الفقراء ومحاطين بالشباب ويحاولون تجربة الأشياء الجديدة. نريد تلك المقاربة مع أشخاص مُتقدين، ومن ثم يمكن للروح أن ينتشر إلى كل مكان".