١بينما يتحدث معظم "الخبراء" الغربيين عن عزلة روسيا الدولية بسبب حربها فى أوكرانيا منذ أكثر من عام، لم يكن لهذا الصراع أى تأثير على التواجد والنفوذ من موسكو إلى الشرق الأوسط.. ما يقوله هؤلاء الخبراء الغربيون هو عكس ما يحدث على الأرض تماما.
فى كتابى "بوتين العرب"، كيف أصبحت روسيا أساسية فى البحر المتوسط والشرق الأوسط، أوضحت كيف تمكنت موسكو بمهارة كبيرة، لمدة عشر سنوات، من اكتساب نفوذ غير مسبوق فى المنطقة، ومع اندلاع الحرب ضد أوكرانيا وفى سياق الانفصال مع الغرب الذى أعقب ذلك، تأكد هذا التأثير وزاد.
وفيما يتعلق بالصراع فى أوكرانيا، يجب أن نتذكر أن جميع الحروب ستنتهى يومًا ما.. عندما يقرر الأمريكيون القيام بذلك، بناءً على نجاحاتهم قصيرة المدى (وضع "قطع" أوروبا بشكل دائم عن روسيا تحت وصاية نهائية، وبيع أسلحتهم وغازهم بأسعار مرتفعة فى القارة القديمة، وما إلى ذلك) ولكن مع إدراكهم، على المدى الطويل، كارثة استراتيجيتهم الشاملة ضد الصين، سيسمحون لزيلينسكى أخيرًا بالتفاوض.. عندها سيكون بوتين والروس قد حققوا ٧٠٪ فقط من أهدافهم الأولية، لكنهم ما زالوا يحتلون خُمس الأراضى الأوكرانية وبالتأكيد، ستظهر روسيا ضعيفة ومع ذلك، فبفضل مواردها الطبيعية غير العادية، وكما أثبتت عدة مرات عبر التاريخ، فإنها ستتعافى.
إنها بالضبط نفس رؤية الدول العربية لهذا الصراع "الإمبراطوري" البعيد الذى لا يعنيها. ولهذا السبب لم تتبع تلك الدول - مثلها مثل العديد من الدول الكبرى فى أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا - الهستيريا الأمريكية والأوروبية ضد روسيا حيث فضلت هذه الدول احترام أجنداتها ومصالحها (القمح والنفط)، دون طاعة الشرطى الأمريكى السابق الذى كان يمثل "بوصلة" العالم.
بالنسبة للمراقبين غير الغربيين و٤/٥ العالم، فإن هذه الحرب فى أوكرانيا بين الأوروبيين والأمريكيين والروس هى حرب ذاتية التدمير وانتحار جيوسياسى واقتصادى حقيقى للغرب. وبالنسبة لهم، عن صواب أو خطأ، لن يؤدى ذلك إلا إلى التعجيل بالانحدار الأخلاقى والمادي، الذى بدأ بالفعل، لأمريكا وأوروبا، حيث لم يعد لديهم أى ثقة فيها وباتوا ينظرون بشيء من الاحتقار لقادتهم الذين فقدوا مصداقيتهم تمامًا ومستعدون دائمًا لأى نوع من الإذلال أو إجراء تسويات مقابل بضعة دولارات أو يورو.
لذلك تفضل الأنظمة العربية الابتعاد عن النظام العالمى الأمريكى والمراهنة بدلًا من ذلك على الصين وحتى روسيا لأن الأخيرة، على الرغم من الأخطاء والصعوبات الحالية فى أوكرانيا، أثبتت ما كانت قادرة عليه طوال عشر سنوات وفى جميع الأزمات والصراعات التى خرجت منتصرة منها دائمًا وفى سوريا على وجه الخصوص، حتى لو لم يكن النزاعان من نفس الطبيعة أو من نفس النطاق.
وفى الحقيقة، يبدو أن قادة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا محصنين أمام الدعاية الأطلسية غير العادية التى تغمر وسائل الإعلام الغربية وتشبعها.. إنهم لا يؤمنون على الإطلاق بهزيمة روسيا أو حتى بسقوط بوتين ويبدو أنهم يثقون فى مرونة هذه الأمة التى تلعب الآن دورها فى البقاء والتى أظهر قادتها دائمًا إتقانًا تاريخيًا كاملًا ومثبتًا لفترة طويلة وخاصة فى حروب الاستنزاف.
لذلك ليس من المستغرب أن تنظر المملكة العربية السعودية إلى الانضمام لعضوية البريكس، وكذلك تركيا والجزائر ومصر والإمارات العربية المتحدة.. كل ذلك، علامة قوية على التحول فى مركز ثقل الجغرافيا السياسية العالمية لصالح الصين.
علامة أخرى للعصر، وليس أقلها، الرفض المتكرر لأوامر الولايات المتحدة الحليف الكبير للرياض منذ عام ١٩٤٥ واتفاقية كوينسى والتى تتمتع بعلاقات تاريخية مع السعودية.. خاصةً أن إدارة بايدن كانت لها مواقف عديدة منتقدة وأمام كل ذلك قرر ولى العهد محمد بن سلمان بالاتفاق المسبق مع الرئيس الروسي، خفض الإنتاج من أجل رفع الأسعار، بعد زيارة بايدن للسعودية الصيف الماضي.. كل ذلك يأتى على عكس الإرادة الأمريكية.
وبالمثل، بدأت السعودية بالفعل محادثات مع بكين للتخلى عن الدولار الأمريكى لصالح اليوان فى المعاملات النفطية، وهو ما يتماشى مع إلغاء الدولار الذى تريده موسكو.
وروسيا مثل الصين فى هذا الشأن، وعلى عكس الغربيين، لا تُلقى محاضرات عن حكم الدول العربية ولا تتدخل فى الشؤون الداخلية لدول المنطقة وهذه نقطة مهمة تجعل قادة المنطقة، سواء أحببنا ذلك أم لا، يبتعدون بشكل متزايد عن الأمريكيين والأوروبيين الذين يلقون الدروس الأخلاقية، عن "الديمقراطيات".
روسيا قوة مسلمة
ومع ذلك، مقارنة بالصين، تمتلك روسيا معرفة تاريخية وواقعية وبراجماتية كبيرة بالشرق الأوسط والعالم العربى الإسلامى بشكل عام. يجب أن يكون مفهوما أن ما نسميه بلطف "الشرق المعقد" هو بالنسبة للروس ملعبهم المفضل فقط أو حتى أرض الصيد المفضلة لديهم لقرون.. ومن أجل الاستعانة بتلك القوة الأوراسية – التى تعتبر نفسها روما الثالثة وريثة بيزنطة والإمبراطورية الرومانية الشرقية - أولت روسيا دائمًا اهتمامًا خاصًا لهذه المنطقة.. من فترة بطرس الأكبر ورغبته فى الوصول إلى البحار الدافئة، إلى يومنا هذا، مرورًا بـ"اللعبة الكبرى" فى القرن التاسع عشر، واتفاقيات سايكس بيكو وسازونوف الشهيرة (بدعم من الإمبراطورية الروسية) لعام ١٩١٦ وفى الحقبة السوفيتية، سافر العملاء والجواسيس الروس دائمًا و"عملوا" فى أراضى بلاد الشام. وبالمثل، غالبًا ما ننسى أن روسيا إمبراطورية وقوة إسلامية؛ فلديها حوالى ١٥ مليون مواطن مسلم، أكثر من ١٠٪ من سكان البلاد، يعيشون بشكل رئيسى فى جمهوريات القوقاز وفى منطقة فولجا الأورال.
على هذا النحو، كان فلاديمير بوتين فى عام ٢٠٠٣ أول زعيم لدولة ذات أغلبية غير مسلمة تمت دعوته للتحدث فى قمة منظمة التعاون الإسلامى (OIC) التى تأسست عام ١٩٦٩، وهى منظمة دولية مقرها المملكة العربية السعودية. وتضم ٥٧ دولة عضو. بعد ذلك بعامين، كان قبول روسيا فى منظمة المؤتمر الإسلامى كدولة مراقبة انتصارًا دبلوماسيًا لفلاديمير بوتين.
وهذا هو سبب تنظيم منتدى خاص بالتعاون الاقتصادى بين روسيا ودول "العالم الإسلامي" يومى ١٨ و١٩ مايو فى مدينة قازان. تعتبر عاصمة تتارستان، الواقعة على بعد ٨٠٠ كيلومتر شرق موسكو، العاصمة الإسلامية لروسيا، وتهدف إلى تجسيد التعايش الدينى السلمى فى روسيا، ونقل صورة دولة "متعددة الجنسيات".. فى منطقة جمهورية الفولجا هذه، تأسس الإسلام منذ قرون. ويشكل التتار، من الديانات الإسلامية، الأقلية الأولى على نطاق البلاد.
مع هذا الاجتماع الكبير، الذى حقق نجاحًا حقيقيًا على المستوى السياسى والدبلوماسى والاقتصادي، فإن عملية الإغراء الروسى تجاه العالم الإسلامي، والتى بدأت قبل الحرب فى أوكرانيا بوقت طويل ولكنها استمرت بشكل خاص لأن روسيا هى نفسها التى قطعت صلتها الآن عن الغرب. إنه أيضًا جزء كبير من هذا "الجنوب العالمي" الشهير الذى تنوى موسكو التوافق معه.
لا تزال روسيا أساسية فى الشرق الأوسط
قبل أسابيع قليلة، عادت سوريا إلى جامعة الدول العربية بعد ١١ عاما من التعليق.. وفى ١٩ مايو، كان بشار الأسد فى الرياض لحضور اجتماع جامعة الدول العربية وهكذا فإن العزلة الإقليمية لسوريا قد انتهت رسميًا.
إنه انتصار لسوريا ولكن أيضًا للسعودية بقيادة محمد بن سلمان، التى تهدف وتؤكد نفسها كلاعب رئيسى فى المنطقة؛ لكن يجب التأكيد على أنه انتصار لروسيا أيضًا لأنه بصرف النظر عن ثقل ولى العهد السعودي، الشريك العظيم، كما رأينا، لسيد الكرملين، يجب ألا ننسى الدور الحاسم للدبلوماسيين الروس لأنه مع حلفائهم ذوى الثقل على الساحة العربية مثل الجزائريين والمصريين والإماراتيين (دولة الإمارات العربية المتحدة أول دولة عربية أعادت تأسيس سفارتها فى دمشق)، فإن رجال وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف، عملوا بلا كلل لسنوات من أجل هذه النتيجة الدبلوماسية.
من المسلم به أن المملكة العربية السعودية قد دعت أيضًا الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى لحضور قمة جامعة الدول العربية هذه.. لكن دعونا لا ننخدع، من المؤكد أن الروس تم ابلاغهم من قبل حلفائهم الجدد فى مجال النفط، المملكة العربية السعودية، بوصول هذا الضيف المفاجئ (على حساب وعلى متن طائرة استأجرتها الحكومة الفرنسية!).. لقد كان الكرملين على علم بالضربة الدبلوماسية لولى العهد الأمير محمد بن سلمان. وفى الواقع، بالنسبة لولى عهد الجزيرة العربية، كانت هذه خطوة خفية على عدة مستويات أولًا من خلال دعوة زيلينسكي، خفف محمد بن سلمان من غضب الغربيين بشأن العودة والترحيب بالرئيس السورى داخل جامعة الدول العربية.
علاوة على ذلك، فإن زيارة الرئيس الأوكرانى للرياض طغت حرفيًا على مشاركة بشار فى وسائل الإعلام الغربية التى غطت الاجتماع العربي؛ فلقد كانت وسائل الإعلام مهووسة إلى حد العبث، بالرئيس الأوكرانى المفضل لـ"معسكر الغرب"! من خلال هذه البادرة التى قُدِّمت لرؤساء الغرب، أكد محمد بن سلمان أيضًا على دوره كوسيط فى الحرب الروسية الأوكرانية (فلقد كانت الرياض فى قلب المفاوضات، قبل بضعة أشهر وتحديدا أثناء تبادل الأسرى). لكن هذه الحركة تجاه القادة الأوروبيين والأمريكيين الساذجسن، لن تغير شيئًا على الإطلاق فى موقف الحياد الذى لوحظ حتى الآن بشأن الصراع، سواء فى المملكة أو فى فى الدول العربية الأخرى. خاصة بعد الدرس الأخلاقى الذى قدمه زيلينسكى لمضيفيه: "للأسف، بعض دول العالم وهنا من بينكم تغض الطرف عن هذه السجون والضم غير الشرعى الذى يحدث لأوكرانيا" !
ومع ذلك، بعد تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران برعاية بكين وإعادة دمج سوريا فى الجامعة العربية، فقد حان الوقت، كما يذكرنا الجغرافى فابريس بالانش، للمصالحة فى الشرق الأوسط مع الصين وروسيا كصانعى سلام.
باختصار، على الرغم من حربها فى أوكرانيا وما يسمى بالعزلة، لا تزال روسيا، إن لم يكن أكثر من أى وقت مضى، مؤثرة فى المنطقة وعلى أى حال، أكثر بكثير من الأوروبيين والأمريكيين الذين باتوا غير قادرين على أن يجعلوا الناس تحلم وبدأوا يخسرون بشكل كبير فى العديد من المواقف.
معلومات عن الكاتب:
رولان لومباردى رئيس تحرير موقع «لو ديالوج»، حاصل على درجة الدكتوراة فى التاريخ، وتتركز اهتماماته فى قضايا الجغرافيا السياسية والشرق الأوسط والعلاقات الدولية وأحدث مؤلفاته «بوتين العرب» و«هل نحن فى نهاية العالم» وكتاب «عبدالفتاح السيسى.. بونابرت مصر».. يتناول، فى افتتاحية العدد، التأثير الروسى فى منطقة الشرق الأوسط مع أفول العالم الغربى.