يمكن أن تكون كتابة تاريخ المخابرات القديمة مهمة صعبة لعدة أسباب، من بينها قلة التخصص فى هذا المجال من قبل المؤرخين المحترفين، وبالتالى فإن من لا يتقن المفاهيم والأساليب والمبادئ المتعلقة بهذا المجال يخاطر بعدم اكتشاف تدخلات المخابرات فى المصادر الأدبية.
ولا شك أن هذا العلم الحكومي، كما يسميه جيرالد أربوا، لا يتقلص فقط إلى التجسس ولكن يشمل جميع الأنشطة (البحث، والحصول، والتحليل، والحماية، والنشر) التى تهدف إلى تزويد طالب معلومات بالمعلومات التى يريدها.. فما هى إذن المخابرات؟ "المخابرات هى منتج نهائي، تم إعداده للرد على طلب معين وهى نتيجة توليف المعلومات التى تم البحث عنها والموثقة والمفسرة، بغض النظر عن مصدرها، سرى أم لا".
وتتيح هذه المعلومات لصانعى القرار اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق ما يريدونه، وكلما كانت الحاجة إلى المعلومات - التى تفيد صانعى القرار- أكثر أهمية كلما كانت المنظمة اللازمة لإنتاجها أكثر تعقيدًا وعندما ينبع الطلب من رئيس الدولة، وتكون المخابرات أحد أسس الحكومة، فإن تنظيمها يتطلب إدارة قوية وقدرة كبيرة على السرية التامة وعددا كافيا من الموظفين المؤهلين فى مجالات متنوعة وكثيرًا من المال ومن يتحدث عن التنظيم فإنه يذكر بالضرورة الإدارة، وتتوفر المصادر الأدبية العربية على الكثير من المعلومات عن الإدارات المرتبطة بالمخابرات مثل البريد والخزانة والشرطة.
المخابرات تنقسم إلى عدة فئات: المخابرات الداخلية، والمخابرات الخارجية، والمخابرات العسكرية. ولكل من هذه الفئات أنشطة وأهداف وإدارات خاصة بها. والتجسس ليس سوى واحدة من العديد من الأنشطة التى تشترك فيها هذه الإدارات، إلى جانب الاستطلاع ومكافحة التجسس ومراقبة السكان على سبيل المثال. وفى الحقيقة، كلمة "مخابرات" التى تشمل كل ذلك لا توجد فى اللغة العربية الكلاسيكية.
ومع ذلك، على الرغم من عدم وجود كلمة واحدة للتعبير عن جميع أنشطة المخابرات، فإن ما يفهم من الكلمة الفرنسية "renseignement" كان موجودًا فى الشرق الأوسط القديم. وما يعادلها فى اللغة العربية الحديثة هو "استخبار". وهذا يعنى حرفيًا "البحث عن المعلومات"، وهو ما يقترب مما وصفه العقيد جول لوال: "مجموعة الطرق التى تستخدم للحصول على جميع المعلومات التى يحتاجها المرء، ويمكن تسميتها بتكتيكات المخابرات".
وتشير المصادر القديمة أو المتوسطة العمر المذكورة التى تستخدم التجسس ومكافحة التجسس والتضليل واغتيالات مستهدفة والمخابرات العسكرية أو العلمية، على الرغم من توزيعها غير المتساوي، إلى كونها كثيرة جدًا. ومع ذلك، وليس بمفاجأة كبيرة، فإن سرية التقارير المفصلة للمخابرات تجعلها غائبة تمامًا عن مكتباتنا.
وهذا ليس بسبب عدم وجود أرشفة لهذه التقارير فى العصور الوسطى والقديمة. يذكر الجيشاري، على سبيل المثال، أنه فى وفاة هارون الرشيد، كان هناك العديد من التقارير السرية التى لم يتم قراءتها وتخزينها وتجاهلها فى الأرشيف الخلافي. فى كل عصر، وعلى الأغلب بشكل متكرر، تم تدمير هذه المصادر السرية المرغوبة أو أخذها بعض الأحيان من قبل مؤلفيها أو المستلمين لأسباب مختلفة.
ومن المؤكد أن هناك مهام استخباراتية لم يتم توثيقها. وعلى سبيل المثال، فى عصر النبي، لم يتم إجراء الأوامر والتقارير الخاصة بالمهام على الأرجح إلا بشكل شفهى ونحن نعرف وجودهم بفضل حكايات الوسطاء الذين طلب منهم النبى القيام بتلك المهام والتى تم تدوين معظمها فى السيرة النبوية. ومع ذلك، فإن استخدام هذا النوع من المصادر يثير جدلًا، لكن هذا ليس موضوع نقاشنا هنا.
تتحدث المصادر عن أنشطة الاستخبارات دون أى إشارة إلى المصطلح نفسه أو أى كلمات متعلقة بهذا المجال، مما يجعل من الصعب على المؤرخين الاستنتاج بوجود مثل هذه الأنشطة، ما لم تذكر الأسماء بشكل صريح. وفى الحقيقة، فإن نتيجة تسلسل الأحداث الخاصة فى سياق محدد، أو فى سياق الحدث نفسه، هى التى تسمح لمؤرخى الاستخبارات بفهم وجود هذه الأنشطة.
ونحن نقدم هنا دراسة حالة واحدة واقعية، وهى مهمة استخباراتية لم يتم الإشارة إليها كذلك فى المصادر، وهى سقوط أبو طاهر الجنابى القرمطي. وعلى الرغم من أن هذا المبشر والجنرال القرمطى أصبح خلال بضع سنوات سيدًا للجزيرة العربية، وبالمناسبة أحد أبرز التهديدات، إن لم يكن الأكبر، التى واجهت الخلافة العباسية خلال النصف الأول من القرن العاشر. وعندما دمر البصرة والكوفة، ولم يتبق له سوى احتلال بغداد، حيث خشى الخليفة المقتدر على عرشه، جاء حدث يغير كل شيء وينتهى التهديد الذى كان يمثله.
وسنقوم فى البداية بوضع السياق الذى وقعت فيه العملية التى أدت إلى سقوط أبو طاهر، ثم نعرض تفسيرنا لذلك، مع تسليط الضوء على العناصر المختلفة التى تدعم اعتقادنا بوجود تدخل من الاستخبارات، ثم سنحاول تحديد أصل هذه المهمة الاستخبارية.
كما نجح حمدان فى الاقتراب بما فيه الكفاية ليدرك أن الإمام الذى يتحدث إليه فى الواقع هو عبيد الله، وكان خيبة أمله كبيرة للغاية. وهكذا فهم أنها كانت احتيالًا وشكك بشكل كامل فى جميع تعاليم الإسماعيلية. وقرر حمدان وعبدان المصابان بخيبة الأمل الكاملة التخلى عن الإسماعيلية والانتقال إلى السنة. ويقال إن حمدان قتل فى طريق العودة إلى العراق حيث كان يعتزم إظهار احتيال عبيد الله لجميع تلاميذه، وتم اغتيال عبدان فى وقت لاحق.
وعلى ما يبدو، لم يكن رجال حمدان، ورجال المبشرين الآخرين الذين عملوا معه، على علم بهذه الأحداث، فاستمروا فى الدعوة وأصبحوا أكثر عددًا. ونظرًا لحجم الحركة التى اتخذوها، حاولوا بسرعة التمرد باستخدام السلاح. ومع ذلك، كان الخليفة المعتضد لا يرحم القرامطة. وفى عهده، كان على بعض زعماء القرامطة العيش مختبئين.
ويذكر عريب تصريح رجل حضر استجواب سجناء قرامطة بقيادة حاكم العباسيين محمد بن داوود بن الجراح. وأخبر أحدهم الحاكم أن زكروايه يعيش مختبئًا فى منزله أثناء حياة المعتضد ويقول: "قمنا بتجهيز مغارة تحت الأرض وأغلقناها بباب من حديد. وكان لدينا فرن، وعندما يأتى شخص يبحث عنه، نضع الفرن على الباب الموجود على الأرض وتقوم امرأة بتشغيل الفرن". وعاش زكروايه بهذه الطريقة لمدة أربع سنوات حتى انتقل إلى منزل آخر أعد خصيصًا له.
ويقول هذا السجين: "قمنا ببناء غرفة وكان بابها مباشرة خلف الباب الرئيسي، وعندما يفتح أحدهم الباب الرئيسى يتداخل مع باب الغرفة ويخفيه". وفى الفترة من ٢٨٤ إلى ٢٨٩، نجحت الجيوش الخليفية فى إخماد عدة انتفاضات قرمطية ولكن عند وفاة المعتضد فى عام ٢٨٩، كانت الحركة القرمطية قد اتخذت حجمًا كبيرًا للغاية.. وتقريبًا حتى عام ٢٩٣، وكان اليمن تقريبا تحت سيطرتها وذلك بحسب ما ذكره الطبري.
معلومات عن الكاتب:
شريفة أمهرار.. طالبة دكتوراة فى تاريخ المخابرات (جامعة سيدى محمد بن عبد الله، فاس)، حاصلة على جائزة "الباحث الشاب" لعام 2010 من مركز الدراسات والأبحاث الفرنسى وشاركت أيضًا فى تأليف كتاب "المخابرات والجاسوسية فى العصور القديمة والوسطى".. تنضم إلى الحوار، بهذا المقال الذى يأخذنا إلى عالم المخابرات.