حظى التشكيل الحكومى الذى اقترحه الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بعد إعادة انتخابه لفترة رئاسية ثالثة فى أواخر مايو لعام ٢٠٢٣، بترحيب جيد على الصعيدين المحلى والدولى؛ حيث يتمثل أبرز أعضائها فى وزير الخارجية ومسئول الاستخبارات السابق وأحد المهندسين الرئيسيين لنشاطها الجيوسياسى هاكان فيدان والذى كان له دور كبير فى بروز الجغرافيا السياسية كأحد المحددات الرئيسية للسياسة الخارجية التركية خلال الفترة الماضية.
أما فيما يتعلق بوزير المالية الجديد فهو الخبير الاقتصادى السابق فى شركة خدمات التمويل العالمية ميريل لينش محمد سيمسك وهو من الشخصيات ذات الخبرة الاقتصادية الكبيرة ويحظى باحترام كبير وعلاقات عمل وثيقة مع نظرائه الدوليين، ويشغل المنصب الثانى من ذو الخلفية الاقتصادية منصب نائب الرئيس وهو جودت يلماز.
يمكن توضيح أبرز تداعيات ذلك على السياسة الخارجية التركية من جوانب عدة تتضح فى:
أولا- أولوية المحددين الاقتصادى والجيوسياسى
تكشف هذه التعيينات عن أن الملف الاقتصادى سيكون حاضرا بقوة على أجندة السياسة الخارجية خلال الولاية الثالثة لأردوغان، بينما كانت الاعتبارات الجيوسياسية والأمنية والسياسية هى المحددات الرئيسية للسياسة الخارجية التركية على مدى العقد الماضى.
ويكتسب ذلك أهمية كبيرة فى ظل سعى العديد من دول الشرق الأوسط لردء الفجوة بين تطلعاتها الجيوسياسية واحتياجاتها الاقتصادية، وهو الأمر الذى يشكل ضغطا مزدوجا على تركيا بشكل خاص لجهة إنها تشهد تراجعا اقتصاديا حادا خلال هذه الفترة. ولمعالجة مشاكلها الاقتصادية، من المرجح أن تسعى أنقرة لتوظيف الجغرافيا السياسية والكفاءات الاقتصادية التى تم تعيينها فى الحكومة الجديدة بهدف التغلب على مشكلاتها الاقتصادية وجذب المزيد من الاستثمارات.
ورغم ذلك ستظل تركيا تسعى نحو مزيد من الاستقلال الذاتى فى سياستها الخارجية والأمنية، بالتوازى مع السعى لتعزيز مكانتها العالمية، كما أن ذلك لا يعنى بالضرورة معاداة الغرب، بل على العكس من ذلك، تكشف الكفاءات التى تم تعيينها فى الحكومة الجديدة عن أنها ترغب فى إداة خلافاتها مع دول العالم بمهارة أكبر.
ثانيا- سعى نحو المزيد من التوازن الجيوسياسى
تساهم تركيا – بوصفها رأس الحربة – بنصيب قد لا يبدو هينا فى تشكيل السياسة العالمية، وبوصفها قوة إقليمية فإنها تسعى نحو لعب دور أكبر فى الشئون الإقليمية، وأن تحظى بالمزيد من الاستقلالية فى سياستها الخارجية والأمنية. ومقارنة بالقوى الإقليمية الأخرى، مثل البرازيل وجنوب أفريقيا والمملكة العربية السعودية، تتمتع تركيا بميزتين أساسيتين يتضح أولاهما فى عضويتها بحلف الناتو، الأمر الذى يجعل السعى نحو الاستقلال الذاتى أمرا مثيرا للجدل فى هذه الحالة، وثانيها فى أنها كانت ولا تزال نتاجا لحضارة وإمبراطورية كبيرة، الأمر الذى يجعل قيامها بدور على الصعيد العالمى قابلا للنقاش، وهو المتغير الذى عول عليه الرئيس التركى رجب طيب أردوغان خلال حملته التى سبقت الاستحقاقات الرئاسية التى فاز فيها بفترة رئاسية ثالثة.
وفى هذا السياق، تعتقد النخبة السياسية فى تركيا أن التطورات الإقليمية والدولية على مدى العقد الماضى – وهو ما يدعمه العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا- تؤكد صحة فرضية السياسة الخارجية لتركيا بأن السياسة العالمية اليوم باتت لا تتمحور حول الغرب كما كان من قبل.
وتعد التحولات الحادثة فى الشرق الأوسط بمثابة انعكاسا للتغييرات الهيكلية فى النظام العالمى، مما يسلط الضوء على الأهمية التى تحظى بها القوى الفاعلة الإقليمية وليس أدل على ذلك من تراجع الدور الأمريكى، بالتوازى مع تزايد دور روسيا فى الأمن الإقليمى والأهمية متعددة الأبعاد التى باتت تحظى بها الصين فى الشرق الأوسط. وتمثلت أبرز ملامح ذلك فى التنسيق السياسى والأمنى بين كل تركيا وروسيا فيما يتعلق بإدارة الصراع الإقليمى فى سوريا وليبيا وناغورنو كاراباخ وحتى فى البحر الأسود.
وفى هذا الإطار، كانت العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا بمثابة مثال واضح على قيام تركيا بعملية توازن جيوسياسى جيدة إلى حد كبير؛ حيث انخرطت أنقرة فى الحرب كالعديد من الدول غير الغربية بما فى ذلك بعض شركائها التقليديين، مثل الهند والمملكة العربية السعودية وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة.
واتبعت تركيا سياستين مترابطتين تمثلتا فى محاولتها أن تكون موالية لأوكرانيا دون أن تصبح مناهضة لروسيا؛ حيث قدمت معدات دفاعية لأوكرانيا فى وقت مبكر، بما فى ذلك طائرات بدون طيار(مسيرة)، بالتوازى مع كون تركيا فاعلا أساسيا فى منطقة البحر الأسود التى تدور فيها الحرب إلى جانب روسيا وأوكرانيا.
ويمكن فهم ذلك فى سياق إنه إذا غيرت موسكو ميزان القوى بشكل جذرى لصالحها، فسيشكل ذلك تهديدا طويل الأمد لتركيا ويقلل من مساحة المناورة لديها فى هذه المنطقة. ومع ذلك، عندما تعلق الأمر بالمواجهة بين روسيا والغرب، سعت أنقرة بشكل فعال إلى تحقيق نوع من التوازن الجيوسياسى عبر رفضها الانضمام إلى العقوبات الدولية.
وعليه، لقد خدم هذا النهج أنقرة جيدا حتى الآن وسمح لها بلعب أدوار متعددة؛ حيث تلعب تركيا دورا دبلوماسيا من خلال محاولة التوسط فى النزاع، وآخر إنسانيا من خلال تسهيل صفقات الحبوب مع الأمم المتحدة، ودورا جيوسياسيا من خلال التحكم فى الممر من وإلى البحر الأسود عبر المضائق التركية، ومكنها ذلك من الحفاظ على التدفق المستمر للأموال الروسية والسياح إلى تركيا، وبالتالى، نظرا لفوائدها العديدة، فمن غير المرجح أن تغير أنقرة هذه السياسة.
ثالثا- استمرار الملفات الخلافية مع الغرب
فى المقابل، من غير المرجح أن تحل القضايا الأساسية فى علاقات تركيا مع الغرب، فهناك فجوة كبيرة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بقراءة كل منهما للسياسة العالمية وتصورات التهديد المرتبطة بها، ولاسيما فى ظل علاقات تركيا المتميزة مع كل من روسيا والصين؛ ولاسيما فيما يتعلق بشراء أنقرة للأسلحة الروسية – حيث كان شراء تركيا لمنظومة صواريخ S- ٤٠٠عاملا أساسيا فى استمرار الخلاف مع الغرب- ووانخرطت مع الصين فى مجال التكنولوجيا فائقة التطور.
وعلاوة على ذلك، توجد بعض الملفات الخلافية الأخرى والتى يتمثل أبرزها فى رفض تركيا لانضمام بعض الدول الأوروبية مثل السويد لحلف شمال الأطلسى (الناتو)؛ حيث تعترض تركيا على نهج ستوكهولم المتساهل فى التعامل مع الإرهاب، وهو الأمر الذى أقدمت السويد على إثره بتشريع قانون أقوى فى نوفمبر الماضى لمكافحة الإرهاب، ودخل حيز التنفيذ فى ١ يونيو ٢٠٢٣. وبالتالى، يبقى أن نرى ما إذا كان سيتم حل هذه القضية فى قمة الناتو المقبلة فى يوليو فى فيلنيوس أم لا؟
كما يوجد خلاف بين البلدين أيضا حول مسألة سلاسل التوريد العالمية، التى برزت إلى الواجهة بسبب جائحة COVID-١٩، والعملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، فضلا عن التنافس بين القوى الكبرى. فبفضل قاعدتها الإنتاجية الكبيرة، وكعضو فى مجموعة العشرين والاتحاد الجمركى الأوروبى تحاول تركيا الاستفادة من إعادة هيكلة سلاسل التوريد قدر الإمكان. ومع ذلك، فإن قدرتها على القيام بذلك لن تتحدد على أساس اليعد الاقتصادى فحسب، بل ترجع إلى مقدار التوافق فى علاقات تركيا مع أوروبا والغرب.
وختاما، يمكن القول إنه لطالما ساهمت الجغرافيا السياسية وتصورات التهديد المشتركة فى تقريب تركيا والغرب، لكن الأزمات الجيوسياسية الأخيرة فى الجوار المباشر لأوروبا فصلتهما عن بعضهما البعض.
ومع فقدان بعض الصراعات الإقليمية لزخمها، تضاءلت الديناميكيات التنافسية إلى حد كبير، لكنها لا تزال بعيدة عن الحل، وبالتالى سيعتمد تأثير المحدد الجيوسياسى على علاقة تركيا بالغرب فى المستقبل القريب على ما إذا كانت الحكومة الجديدة بقيادة أردوغان ستتبنى نهجا تنافسيا أم تعاونيا فى جوارها القريب والبعيد.