الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

المجد للحرافيش..نجاح الموجى.. الهرم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news


فيلسوف شعبى في زمان رديء مختل، حيث الضياع والاتهام بالجنون لمن يسعى إلى التعايش مع معطيات الواقع غير السوي. فلسفته البسيطة العميقة مستمدة من نبض الشارع الصاخب الحافل بالغرائب والعجائب، خالية من المصطلحات المعقدة وكوابيس التنظير. نجاح الموجى صوت الحرافيش المرهقين المقهورين في سنوات الغضب والتيه والإحباط، تلك التى تطول وتتوحش وتبدو بلا نهاية. كأنه الطبعة العصرية من نجيب الريحاني، أو هو الترجمة السينمائية لأدب يحيى الطاهر عبدالله. كلاهما، نجاح ويحيى، يقول إن الدنيا بنت الحيلة، ومن لا يتحايل عليها يعيش ويموت مثل كلب جربان.
سنوات لا تزيد إلا قليلا على العشر من الإبداع السينمائى المتميز، ومحصول هائل يتيح له مكانة جديرة بالاحترام وطول البقاء. مدرسة خاصة في الأداء، وتفرد في التعبير عن ساكنى القاع المحاصرين بالتحديات والهموم. كثيرة هى أدواره المتوهجة التى تخطف العيون وتسكن القلوب، وعظيم سحر تأثيره على من يتوحدون معه ويندمجون في عالمه المعجون بالصدق والبساطة والكوميديا السوداء.
سلم لنا بقى على التروماى
في «أيام الغضب»، ١٩٨٩، كان نجاح على موعد مع كلمات الشاعر العظيم سيد حجاب. يغنى بصوته الاستثنائى الفريد، الجميل بلا تزويق مثل طمى الأرض:
اتفضل من غير مطرود
وإياك تتجنن وتعود
دا الداخل عندنا مفقود
والخارج من هنا مولود
سلملنا بقى ع التروماي
حتسيب مستشفى المجانين
وتعيش مع مجانين تانيين
ما هى دنيا تجن العاقلين
اوعى تروح بقى في الباى باي
دنيا بتدى للهبيش
ويا عينى علينا يا حرافيش
نشقى عشان حبة ملاطيش
ما يكفوش العيش والشاي
دنيا ودايرة خلف خلاف
والمجانين فيها أصناف
كله لازمله قميص بكتاف
من أوطى ما فيهم للهاي
مصطفى، سيد العقلاء، نزيل مستشفى الأمراض العقلية باختياره. يسرق «الهبيشة» من كبار اللصوص، ويدفع الموظف الصغير الثمن عبر تهمة ملفقة: «لما رحت السجن عملت مجنون.. قلت يمكن هنا أرحم من السجن.. أتارى السجن بالنسبة لهنا فسحة».
السجون مليئة بالأبرياء من الحرافيش الفقراء، ومستشفيات الأمراض العقلية مزدحمة بالعقلاء الذين يتعرضون للقهر والابتزاز من الأطباء والممرضين. تتسع السجون والمستشفيات لكل ما تحفل به الحياة من مظاهر القمع والظلم، وكم يبدو مصطفى فيلسوفا عظيم الحكمة عندما يقول كمن يقرر حقيقة راسخة: «للجنان سبع فوايد».
يتألق نجاح في الدور المركب متعدد المستويات، ويجمع أداؤه المتميز بين المرح والمرارة، أما أسلوبه في الغناء فيتجاوز الكلمات ويضيف إليها، ذلك أن الجسد والوجه يتحالفان مع الصوت للتعبير عن عمق المأساة.
تتكرر ثنائية السجن والجنون في «التحويلة»، ١٩٩٦. عامل التحويلة حلمى أمين عبدالسيد، مواطن «صالح» مسالم، يكتب الزجل ويتغنى به على الرغم من جهله بالقراءة والكتابة. رب أسرة بسيطة فقيرة، ويحلم بمستقبل أفضل لابنه وابنته. لا شيء يباهى به أكثر من علاقته العابرة مع ضابط شاب: «سامى بيه بيحبنى قوي».
الحرفوش الساذج
عن أى حب يتحدث الحرفوش الساذج؟. لا يتردد «صديقه» الضابط عن اعتقاله ليكون بديلا عن السجين الهارب من سيارة الترحيلات، وعندئذ يتحول اسمه إلى حسين الغمراوي، وتُسلب هويته ويُمحى تاريخه.التحول ورقيا من المسيحية إلى الإسلام جزء من المفارقة، والكارثة الحقيقية هى سهولة التضحية بالعاديين من ساكنى القاع الطبقى لإنقاذ السادة أبناء السادة، وهو الموقف نفسه الذى يواجهه مصطفى، حيث تلفيق التهمة قربانا لكبار اللصوص.
رحلة مأساوية طويلة، محطاتها الاعتقال والتعذيب ومحاولة فاشلة للهروب والتحويل إلى مستشفى الأمراض العقلية، حيث يوقن الطبيب أنه عاقل صادق، وغاية ما يفعله هو التخلص منه بإعادته مجددا إلى المعتقل.
القتل نهاية منطقية، والمصرى البسيط الذى لم يغادر حارته الفقيرة يوما، تجسيد فنى بارع للعنة الضياع التى يواجهها مواطنون زهيدو الثمن، أو بلا ثمن.
موجع مؤثر تعبير الممثل العملاق عن الكابوس الغرائبى الذى يعيشه حلمى أمين عبدالسيد، فهو يترجم محنته بكل ذرة من مشاعره وأحاسيسه. حصار خانق من الظلم والعبث واللامعقول، وشهادة على المآسى التى يصنعها السادة أبناء السادة، الذين يسرفون في الغناء الكاذب للوطن، ويرد مندوب الحرافيش: «تحيا مصر.. بس انتو سيبوها تحيا.. وهى تحيا».
الحريف
لأن الدنيا بنت الحيلة، يسعى الفقراء المهمشون المقهورون إلى التعايش بالمتاح لهم من أسلحة وأدوات، ولا معنى هنا للحديث عن مشروعية وأخلاقية ما ينتهجونه من سلوك.
عبدالله في «الحريف»، ١٩٨٤، من سكان السطوح الذين يكابدون الفقر ويصارعونه ويتعرضون للهزيمة في الصراع غير المتكافئ. زوجة وأبناء وبطالة متكررة وأزمات لا تتوقف، والتورط في جريمة سرقة تفضى إلى القتل. الشر ليس أصيلا، فهو وديع مسالم، والحيثيات التى يقدمها لتبرير جريمته مقنعة مردودة إلى مطاردة الفقر والتعرض لأنيابه القاسية التى لا ترحم. عندما تكتشف الشرطة فعلته، يتخذ من الزوجة والأبناء رهائن يحتمى بهم، ويصرخ في جاره فارس، عادل إمام، شارحا حقيقة الملابسات والدوافع: «أنا ما قتلتهاش يا فارس.. ما كنش قصدى أقتلها.. أنا زقيتها وقعت.. ما كنش قصدي».
ليس أسهل من إدانة عبدالله والتنديد بسلوكه الإجرامي، لكن السؤال الأساس الذى تستحيل الإجابة عليه: ما الذى يملكه التعساء من الفقراء المحبطين في مواجهة واقع متجهم يضن عليهم بالحد الأدنى من حقوق الحياة؟. لا يفلت مشاهد نجاح من الشعور بالتعاطف والإشفاق، ذلك أن ملامحه الطيبة البائسة لا توحى بأنه مجرم محترف، وتوتره النفسى دليل إدانة لظالميه ومكرسى هامشيته.
عباس عباس المر في «المساطيل»، ١٩٩١، قاتل آخر ومدمن مخدرات. معاناة مدمرة من البطالة والتشرد، وتخبط في دروب الحياة الوعرة، فكيف لا ينتهز الفرصة المواتية ويلقى شباكه لاصطياد زوجة تاجر المخدرات بعد سجنه؟. محتال نصاب يظفر بالمرأة ويسارع بالتخلص منها عبر دس كمية هائلة من المخدرات لها، وله منطقه الذى يتوافق مع تجاربه وخبراته المريرة: «انتِ اللى قتلتِ نفسك يا روحي.. غطتينى بالفلوس.. وأنا بقى بأخاف من الغدر».
الفهلوى
يتوهج نجاح عندما يذوب في شخصية المنكسر المرتعش عبدالله، ولا يختلف إبهاره وهو يعايش بإخلاص وإتقان مدروس عالم «الفهلوي» عباس. تشعر في حضرته أنه قادم لتوه من حارة الحرافيش التى يجمع أبناؤها بين تحمل ضربات القهر والبراعة في التحايل.
الهرم
يصل نجاح إلى آفاق جديدة عالية من التحقق والإبداع في «الكيت كات»، ١٩٩١. الهرم تاجر مخدرات شعبى كما ينبغى أن يكون تاجر المخدرات الشعبي، وكل ما فيه يوحى بالمعايشة العميقة التى تتجلى في ملابسه ولغته واستيعاب ملامح التكوين النفسى للمهنة التى يجمع محترفها بين الشهامة والغدر والذكاء الحاد، في تجانس وتناغم بلا نشاز. ليس مستغربا أن يتحول «الهرم» إلى جزء من نسيج اللغة اليومية الشائعة، فمن الذى يجهله؟.
السباك
في «الحب فوق هضبة الهرم» ١٩٨٦، يصعد السباك أحمد عبدالمقصود طبقيا، متفوقا على السادة القدامى من أبناء الطبقة الوسطى المتآكلة، والفضل يعود إلى الانقلاب الذى يصنعه مناخ الانفتاح الاقتصادى وقوانين التحول الاقتصادى التى يقودها نظام السادات. أرباح المهنة المتواضعة، أو التى كانت متواضعة، تفوق إيرادات مجموعة من صغار الموظفين الذين تتداعى مملكتهم الهشة، وصعود الحرافيش أمثال أحمد لا يعنى التحلى بمنظومة أخلاقية وسلوكية مغايرة لما يعتادونه من قبل. يبرع نجاح في محاكاة المتغيرات الشكلية، الملابس وأسلوب قيادة السيارة والمباهاة بالثراء وما يترتب عليه، ويعى أيضا في أعماقه أن المكانة الجديدة ليست أصيلة، ما ينعكس على اللهجة وطبقة الصوت ونظرات العينين المعبرة عن القلق الكامن.
السائق
أحمد السريع في «أربعة في مهمة رسمية»، ١٩٨٧، مالك وسائق سيارة نقل صغيرة. بلقائه مع الموظف أنور عبدالمولى، أحمد زكي، يتشكل ثنائى يصنع المرح ويزرع البهجة. مباراة تمثيلية بين عملاقين متمكنين لا فائز فيها ولا مهزوم، فهما متكاملان جراء الاختلاف النسبي، ويعبر كل منهما بطريقته عن معطيات الواقع، لكن السائق الشعبى هو الأكثر خبرة ودراية، والقادر على القيادة السلسة في صخب الحياة التى تغيب تفاصيلها عن الموظف الوافد من أعماق الصعيد.
أحمد زكى موهبة طاغية ذات حضور يرهق من يمثلون أمامه، ونجاح الموجى بدوره عملاق لا يخشى مبارزة منافسيه ولا يهابهم.
صوت الحرفيش
يطول الحديث عن مكانة نجاح في المسرح والدراما التليفزيونية، وهو في السينما علامة مضيئة يزداد بريقها لمعانا بكرور السنين. صديق مقرب لمشاهديه كأنه يجالسهم في قهوة شعبية، يحكى لهم ويسمعهم. تعلو القهقهات المختلطة بما يتيسر من الدموع، وتنتهى الجلسة فتنزاح مع نهايتها هموم وعكارات. يحبونه لأنه واحد منهم، لا يكذب ولا يخدع ولا يتعالى، ولا ينسى قبل مغادرة القهوة أن يودعهم ضاحكا باكيا:
دنيا بتدى للهبيش
ويا عينى علينا يا حرافيش
نشقى عشان حبة ملاطيش
ما يكفوش العيش والشاي
.. لكن المجد للحرافيش.