تثير استراتيجية الأمن القومى التى أعلنتها ألمانيا 14 يونيو 2023 الشعور بقدر من الشفقة على ما آلت إليه صاحبة أكبر اقتصاد أوروبى ومن ورائها قارتها العجوز؛ وتطرح الكثير من علامات الاستفهام والشكوك فى أن تحمى هذه الاستراتيجية استقلال ألمانيا ومقتضيات أمنها القومى إزاء الولايات المتحدة التى عملت على ابتزاز كل أوروبا عبر ملف الطاقة فى أفضل استثمار للأزمة الأوكرانية.
من المفارقات أن يأتى إعلان أول استراتيجية ألمانية للأمن القومى استجابة للمتغيرات الجيوسياسية والتحديات الأمنية التى أوجدها الصراع الروسى الأوكرانى "بحسب المنشور الذى وزعته الحكومة فى برلين" على خلفية مشاهد تبرز تلاعب الجنود الروس ومدفعيتهم بدبابات ليوبارد2 الألمانية ومدرعات بابلى الأمريكية إلى الحد الذى جعل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين يقول للمراسلين العسكريين بنبرات كلها ارتياح وعبارات لا تخلو من الزهو أن الدبابات والمدرعات الغربية يتم تدميرها بشكل ممتاز وذخائرها تنفجر بداخلها.
فخر الصناعات الأوروبية والأمريكية تحول على يد الروس إلى مجرد خردة، لكن ذلك المشهد ليس المفارقة الوحيدة؛ فالإعلان الألمانى جاء عقب تأكيد الإذاعة الهولندية أن مخابرات بلادها علمت بخطة أوكرانيا لتفجير خط السيل الشمالى (نورد ستريم) 1 و2 فى شهر يونيو 2022 أى قبل تفجيره فعليًا بثلاثة أشهر فى ٢٦ سبتمبر ٢٠٣٣ وأنها قامت بإبلاغ المخابرات المركزية الأمريكية CIA عبر الحكومة الهولندية التى أعطت ذات المعلومات لعدد من الدول الأوروبية ومن بينها ألمانيا التى كانت تصلها إمدادات الغاز الروسى عبر أنابيب السيل الشمالى1، وشاركت الروس فى بناء أنبوب السيل الشمالى2.
تعكس استراتيجية ألمانيا لأمنها القومى إلى أى حد أصبحت برلين تابعًا ضعيفًا لواشنطن، لا يقوى حتى على مواجهتها بما تسببت فيه من أضرار لبنيته التحتية الحيوية؛ فقد كشف الصحفى الأمريكى سيمور هرش فى فبراير الماضى عبر تحقيق استقصائى تورط المخابرات الأمريكية فى تفجير خطى أنابيب السيل الشمالى 1 و2 ومع ذلك لم تتحرك برلين وتصرفت طوال الوقت كمن يتآمر على نفسه بالتواطؤ مع من يهددون مصالحه وأمنه؛ حتى أن المستشار الألمانى أولاف شولتز ألمح فى تصريح أخير إلى أنه لن يواجه الرئيس الأوكرانى فولديمير زيلينسكى بالمعلومات المتواترة عن تورط مخابرات بلاده فى الإضرار بأنابيب السيل الشمالى ومن ثم تهديد أمن ألمانيا القومى حيث قال للصحفيين أن مكتب المدعى العام هو المعنى بالمعلومات التى تصدر عن سير التحقيقات.
تشير الاستراتيجية الألمانية للأمن القومى إلى العمل على تشريع قانون يحمى البنى التحتية الأساسية، وكأن السيل الشمالى كان بحاجة إلى قانون وصياغة استراتيجية لحمايته والدفاع عنه، لكنها أيضًا وعلى ما يبدو قد أغلقت هذا الملف وقررت تجاهله إلى الأبد حيث ينص أحد بنودها على تنويع مصادر جلب الطاقة وتعزيز احتياطاتها وعدم الاعتماد على مصدر واحد، علاوة على ذلك اعتبرت استراتيجية الأمن القومى الألمانى جارتها روسيا الاتحادية أكبر خطر يهدد الأمن والسلم فى الفضاء الأوروبى والعالمى وأن تعزيز قدرات النيتو العسكرية الرادعة هو السبيل لضمان هذا الأمن.
يشار فى السياق إلى أن ألمانيا نفسها تعترف بأن الفضل فى بناء قاعدتها الصناعية يرجع أولًا وأخيرًا إلى الطاقة الروسية الرخيصة، فيما لم يجدى شولترز ونظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون الصراخ من بيع أمريكا الغاز المسال لأوروبا بأربعة أضعاف سعره، والسؤال هنا هل ستسمح واشنطن لألمانيا وغيرها من الدول التابعة لها فى حلف النيتو تنويع مصادر الطاقة إلى حد يؤثر على حجم مبيعات الغاز الأمريكى المسال؟!.
أيضًا تطرقت الاستراتيجية إلى زيادة الإنفاق العسكرى بنسبة 2% من الناتج المحلى الألمانى حتى تتمكن القوات المسلحة الألمانية من القيام بدورها فى إطار حلف النيتو وهو ما يشير إلى تخلى أكبر قوة اقتصادية أوروبية عن حلم تأسيس جيش أوروبى موحد يتيح مساحة من الاستقلال الاستراتيجى أمام الولايات المتحدة بحسب تعبير الرئيس الفرنسى ماكرون وهذا ما قد يفسر استجابة للإرادة الأمريكية فى هذا الصدد.
كذلك تؤكد الاستراتيجية على دعم أوكرانيا حتى تحقق الانتصار على روسيا وتتمكن من استعادة كامل حدودها المعترف بها دوليًا، وهو أمر لا يبدو واقعيًا فمخازن الأسلحة والذخائر الأوروبية لم تعد قادرة على الإيفاء باحتياجات أوكرانيا ولا حتى المخازن الأمريكية زعيمة حلف الناتو والدليل هذا الضعف الذى بدا عليه الجيش الأوكرانى أثناء قيامه بشن الهجوم المضاد علاوة على تفوق الأسلحة الروسية الظاهر على العتاد والمعدات العسكرية الغربية ما يعنى أن القاعدة الصناعية العسكرية لحلف الناتو بحاجة إلى المزيد من الوقت لتطوير أسلحتها من ناحية وللوصول إلى معدلات إنتاج كبيرة تمكنها من مواصلة دعم أوكرانيا وقد لا تجد دول الحلف الوقت الكافى لهذه العملية فى ظل معدلات التضخم المتصاعدة والركود الاقتصادى وتراجع معدلات النمو.
الاستراتيجية تضع الصين وروسيا فى الجانب الذى يسعى إلى تغيير النظام العالمى وقواعده لكنها تصنف الصين فى نفس الوقت شريكًا ومنافسًا وهذا ما يجعل سياسة برلين تجاه بكين مرتبكة أو على الأقل تحاول إمساك العصى من المنتصف إرضاءًا لواشنطن، فهى تقول إن بكين حاولت فى أكثر من موضع ومناسبة العمل ضد مصالح وقيم ألمانيا.
ظنى أن الاستراتيجية الألمانية قد أطاحت بالأحلام الفرنسية بالاستقلال الاستراتيجى عن الولايات المتحدة، ذلك أن استقلال أوروبا لن يكون دون توافق بين القوى الرئيسة بل أن أوروبا قد تنجر إلى الصراع الأمريكى الصينى فى إطار تشديد هذه الاستراتيجية على أن الناتو يشكل الضامن لأمن أوروبا وفى سياق تأكيد وزارة الدفاع الأمريكية على أن انتصار روسيا قد يدفع الصين إلى عمل عدائى مماثل ضد تايوان.
لا رهان على حكمة القارة العجوز لوقف هذه الحرب ومنع تطورها ويبقى الرهان الوحيد تغيير الإدارة الديمقراطية فى البيت الأبيض واستبدالها إما بدونالد ترامب أو بمن يتبنى منهج أو مدرسة الترامبية إن جاز التعبير فى التفاوض لتحقيق أفضل المكاسب لكن شريطة عدم التورط فى حرب عالمية ثالثة مهما احتدم الصراع لكن يبقى فى حدود استخدام أسلحة الاقتصاد والدبلوماسية والضغوط السياسية.