السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الباحث إبراهيم ناجي يكتب: الأب هنري بولاد اليسوعي أحد رموز القوة الناعمة للكنيسة الكاثوليكية المصرية

الباحث إبراهيم ناجي
الباحث إبراهيم ناجي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ربما من النادر أن يتذكر الشعب الكاثوليكي  داخل او خارج مصر أسماء الآباء البطاركة طيبي الذكر الذين جلسوا على كرسي الإسكندرية للأقباط الكاثوليك خلال الخمسون عاما الماضية، ولكن ما أسهل على الكاثوليك في مصر وفي الشرق الأوسط تذكر ذلك الاسم اللامع في سماء المسيحية المصرية "الاب هنري بولاد اليسوعي" ذلك العظيم في ملكوت السماوات بحسب وصف السيد المسيح عمن عمل وعلم والذي ترك ارثا من العمل التربوي والتنموي والاجتماعي إلى جانب كنوز التعليم اللاهوتي والانساني والروحي والفكري التي سوف يظل ينهل منها المصريين مسيحيين ومسلمين، كاثوليك وارثوكس وانجيليين ممن عرفوا الرجل او لم يعرفوه لعقود وعقود طويلة متى أرادوا خدمة وتنمية المجتمع أو التعمق في ماهية حياتهم على الأرض.

بحسب ما ورد في مؤلفه الموسوعي "اليسوعيون في مصر...مساهمتهم في التربية والتنمية والثقافة" الذي ألفه الراحل الأب وليم سيدهم اليسوعي في العام 2020، فهو الأب هنري ابن لاون بولاد، وهيلان غزة من طائفة الروم الملكيين الكاثوليك. ولد في الأسكندرية سليلًا لاسرة دمشقية الأصل؛ حيث لا تزال هناك حارة تحمل اسم أسرته في العاصمة السورية حتى اليوم. 

أنهى الأب بولاد دراسته الاولى حتى تخرجه من المرحلة الثانوية في مسقط رأسه، ثم التحق الرهبانية اليسوعية في أواخر سبتمبر من العام 1950 وتابع بعد ذلك دراسته في ميادين الروحيات والأدب واللغات والفلسفة واللاهوت لما يقرب من ستة عشر عامًا بين لبنان وفرنسا ومصر والولايات المتحدة الأمريكية. سيم كاهنًا يوم عيد القديس اغناطيوس دي لويولا مؤسس الرهبانية اليسوعية يوم 31 يوليو من العام 1963، ثم نال درجة الماجستير في التربية من جامعة شيكاجو الامريكية بعنوان "السلوك الشفهي وبعده الاجتماعي في نظرية التحليل النفسي"

بدأ الأب بولاد خدمته في حقل العمل المصري منذ نهاية الستينيات حيث تولى مسؤوليات روحية وتربوية وانسانية عديدة في مدارس اليسوعيين ولدى الشبيبة في رهبانيته وشهد تأسيس جمعية كاريتاس-مصر مع اندلاع حرب 1967 والتي تولى رئاستها بمصر وفي أفريقيا والشرق الأوسط على مدار عقود وظل عضوًا بمجلس ادارتها حتى شهر نوفمبر من العام 2022. 

الاب هنري بولاد اليسوعي كان محاضرًا وافر النشاط حيث قام بإلقاء مئات الأحاديث والمحاضرات الثقافية والدينية والإنسانية باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية في مصر وفي مختلف دول العالم، عطفًا على العديد من المؤلفات اللاهوتية والدينية والإنسانية التي ترجمت من العربية الى العديد من اللغات من أبرزها؛ ولادة الموت، منطق الثالوث، ابعاد الحب، الانسان، الانسان وسر الزمن، الإنسان والكون والتطور بين العلم والدين، الإنسان وسر الوجود، السلام الداخلي، الإله المستحيل: من الامل الي الرجاء، هدف الحياة ومعناها، نحو حياة افضل، الله غير ما نتصوره، الإنسان وسر التجسد، الافخارستيا-الله فينا-بحث في سر القربان المقدس، أسس الحياة الروحية، المقدسات- نظرة جديدة في أسرار الكنيسة، مدخل الى اللاهوت الروحي، العائلة بين الأصالة والحرية، الالحاد وتحدي الايمان، الطاقة الجديدة للمعاناة. تم ترجمة أربعة كتب خطها الأب بولاد من الفرنسية الى العربية وهي؛ الحياة الرهبانية في أيامنا، أسطورة التضخم السكاني، بالمادة اصلي، لا للقدر-كيف اكون حرًا، أمثال يسوع بين الأمس واليوم. الى جانب العديد والعديد من المؤلفات باللغات الاجنبية الأخرى وبصفة خاصة الاسبانية والبرتغالية والايطالية.

يكمن سر القوة الناعمة للاب هنري بولاد اليسوعي في قدرته على تحدي ثوابت ومبادئ الإيمان والعقيدة واللاهوت والعمل الاجتماعي بطريقة تجعلك دون أن تدري في كثير من الأحيان تفتح فمك ومن ثم عقلك وعينيك على آفاق أرحب من تلك التي احتلها بولاد بكلماته القوية ونبرة صوته المميزة ليخرجك منها. جرأة الأب بولاد هي سر القوة الناعمة التي ليسوعي مصري أصيل. جراته في نقد المألوف والمستساغ على مستوى الوطن والكنيسة والخدمة والايمان بالطريقة التي تقود الى تحول في الفكر والفعل. أحد أسرار القوة الناعمة للاب بولاد هو تخطيه حدود المألوف في الرهبانية اليسوعية وفي العمل الاجتماعي وفي الفكر الإنساني ومن المحيط المصري الإقليمي للمسيحي على مستوى العالم وأوروبا بشكل خاص مع ترجمة ونقل مؤلفاته الإنسانية الى العديد من اللغات الأجنبية.

يظهر جليا حضور الأب بولاد الناعم في امرين الاول هو أثر كتاباته ومحاضراته في ضمائر الكثير من الكاثوليك وغير الكاثوليك ممن شكل بولاد فكرهم الديني والانساني على مدار أكثر من ٥٠ عاما. والأمر الثاني الموازي للأول هو نموذج خدمة المجتمع الذي انخرط فيه هذا الإنسان العظيم من خلال كيان جمعية كاريتاس-مصر على مدار ٥٦ عاما ومن خلال الكثير والكثير من مبادرات العمل المجتمعي التي قادها الأب بولاد بنموذج ومفهوم القائد الخادم الذي تتمحور حوله جميع علوم القيادة والإدارة الحديثة الهادفة إلى تحويل المجتمعات من خلال التركيز على تنمية البشر.

على صعيد قوة الخدمة المجتمعية التي كان يقوم بها الأب بولاد من خلال جمعية كاريتاس-مصر لا يكفي فقط النظر للادوار والمناصب التي تبوأها في الجمعية بمصر والشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مدار نصف قرن ولكن في عمق الخدمة والرسالة التي سعى الأب بولاد الى تقديمها من خلال كوادر من البشر تلامسوا مع قيمة العمل الإنساني المقدم للفقراء والمهمشين والمنبوذين الذين لا صوت لهم على مثال الفتيات في قرى الصعيد المحرومين من الحق في التعليم، والأطفال في ظروف الشارع "أطفال الشوارع"، وضحايا فيروس نقص المناعة المكتسب "الإيدز"، والمتعافين من الإدمان، وغيرهم وغيرهم كثيرين ممن عمل الأب بولاد مع ذوي الإرادة الصالحة بكاريتاس مصر والداعمين لها خارج مصر كي يحظى هؤلاء بفرص حياة أكثر كرامة وتضامنا.

وعلى صعيد قوة الفكرة والرؤية والكلمة اللاهوتية والانسانية يكفي مراجعة عناوين الكتب والمؤلفات التي خطها عقل الأب بولاد والتي تعكس مستويات من الفلسفة الروحانية الدينية الانسانية تجذب المتشككين والمترددين والغير عارفين لبحث وفهم أعمق ليس فقط للهوية المسيحية بل للغرض من شهادة المسيحيين المنعكس في أسلوب حياة بسيط وعميق عكسه الأب بولاد بذاته وبشهادة جميع من عرفوه أو عاصروه او سمعوه او طالعوا كتابته.

في قراءة التاريخ الإنساني هناك العديد من المنهجيات أحدها تفترض دوران عجلة التاريخ وتكرار أحداثه ولو بعد حين. منهجية اخرى ربما يمثلها هذا اللاهوتي والانسان العملاق هنري بولاد اليسوعي والتي تفترض انه هناك توليفة من الأشخاص والأحوال اجتمعت في لحظة ما من الزمان بمكان ما على الأرض لتصنع في العالم تغييرا يصعب تكراره أو تدويره، ربما هكذا كان الأب بولاد واليسوعيين في مصر على مدار خمسين عاما ماضية من صناعة القوى الناعمة والشهادات الحية للكنيسة الكاثوليكية والمسيحية المعاصرة