تُعَدُّ موقعة «مجدو» التي قابَلَ فيها الملك «تحتمس الثالث» جيوشَ الحلف السوري بإمرة حاكم «قادش»، أول معركة حربية في تاريخ العالم القديم تم نقلها لنا بالكامل، ويرجع الفضل في ذلك إلى اليوميات التي خلفها الملك وجيش على أحد جدران معبد الكرنك.
وذكر الأثريون أنه جرَتِ العادة في الجيش المصري في عهد الإمبراطورية القديمة أن تُدوَّن يوميات عن سير القتال أثناء الحملات التي كان يقودها الملك بنفسه، وكان المكلَّف بهذه المهمة رئيس كتاب الجيش. وكانت تُحفَظ نُسَخ من هذه اليوميات في معبد الإله «آمون رع» بطبية. لكن لم تصل إلينا منها إلا اليوميات التي أمر «تحتمس الثالث» بأن تُنقَش مقتطفات منها على جدران معبد الكرنك.
يقول الأثري الكبير سليم حسن عن أهمية سرد حوادث هذه الموقعة: "لا تنحصر الأهمية في وصفها وحسب؛ بل كذلك لأننا نقرأ في وثيقة تاريخية لأول مرة في تاريخ العالم أن قائدًا حربيًّا لم تقتصر مواهبه على أنه جندي شجاع وقائد قدير ماهر فقط، بل كانت لديه الشجاعة كذلك ليخوض غمار مخاطرة قد كان يعرف عواقبها من قبلُ ليصل إلى غرضه بسرعة خاطفة، بل أظهر فضلًا عن ذلك مهارةً حربيةً في وجه العدو الذي جعله يتأرجح في يده كاللعبة في يد الصبي".
ووفق ما نقلته موسوعة "مصر القديمة" عن لوحات الكرنك، يمكن تلخيص حركات الجيش الذي كان يقوده "القائد المبتكر" -كما وصفه سليم حسن- فيما يأتي: لما عقد «تحتمس الثالث» مجلسه في «يحم» في اليوم السادس عشر من الشهر، صمَّم على اختراق الطريق من «عرونا» إلى «مجدو»، فأمضى اليوم السابع عشر في الاستعداد للزحف، وفي اليوم الثامن عشر زحف الجيش نحو «عرونا»؛ حيث قضى فيها ليلة، وفي اليوم التاسع عشر استؤنف الزحف نحو «مجدو»، وكان الملك نفسه يسير في مقدمة طليعة جيشه في المعبر الضيق، فسار على رأس الجيش مخترقًا هذه الطريق الوعرة، ولم يحدث خلال اجتيازها حوادث تستحق الذكر، اللهم إلا بعض مناوشات صغيرة.
وسرعان ما تخطَّتْ مقدمةُ الجيش التلالَ، حتى عسكر «تحتمس الثالث» بعد مشاورة ضباطه عند فم الممر؛ ليكون في مأمن من هجمات العدو على جناح كتائبه الممتدة في طول المعبر وهم يسيرون متعثرين نحو العراء، وتمَّ خروج الجيش من هذا المعبر عند الساعة السابعة بعد الظهر، ومن ثَمَّ عسكر الجيش المصري في وادي قنا، وفي هذه الأثناء كانت قوة السوريين بلا نزاع قد ضربت خيامها في نفس الوادي بالقرب من «مجدو»، وكانت لهم قوة أخرى قد عسكرت عند «تاعنخ»، وكانت مهمتها منع زحف المصريين وإعاقة تقدُّمهم من كلتا الطريقين، ومن المحتمل أنه كان للسوريين قوة أخرى تؤازرهم قد عسكرت وسط هذين المكانين، غير أن هذه القوة التي كانت عند «قنا» قد أخفقت في مهاجمة الجيش المصري الزاحف لجهلهم بموقعهم، وكان السوريون على ما يظهر قد حشدوا كل جيوشهم في وادي «قنا» لصد الجيش المصري، غير أن المصريين قد خدعوهم أيضًا، ففي الساعة الأولى من اليوم العشرين انتشر الجيش المصري عبر وادي نهر «قنا» إلى الشمال الغربي من «مجدو»، ثم إلى الجنوب الشرقي من تل هناك، مهدِّدين بقطع مواصلات العدو ببلدة «مجدو»، ثم هاجمهم المصريون ثانيةً على غرة.
وتضيف الموسوعة: عندما كشف السوريون حركةَ الجيش المصري وقد ضرب عليهم الحصار في وادي «قنا»، حاولوا على ما يظهر أن يقوموا بهجوم مضاد، ولكن الجيش المصري لم يعطهم الفرصة لتنفيذ خطتهم، ولم يكد المصريون يهاجمونهم حتى هُزِموا وولوا هاربين، ولما رأى سكان بلدة «مجدو» ما حدث لجيوشهم غلقوا أبواب مدينتهم في الحال، وأخذوا يجرون الفارين على جدران المدينة بحبالٍ صُنِعت ارتجالًا من الملابس التي كان يرتديها أولئك الفارون، وقد هيَّأَتْ عوامل الرعب والفزع والذعر التي انتشرت بين رجال الجيش السوري فرصةً سانحةً للجيش المصري للاستيلاء على المدينة، بالهجوم أثناء الاضطراب الذي أحدَثَه فرار جيش السوريين، غير أن جنود الجيش المصري لم يكن في استطاعتهم أن يقاوموا حب السلب الذي دبَّ في نفوسهم، عندما رأوا أسلاب العدو أمامهم مكدَّسة، وبخاصة معسكر السوريين الذي كان يفيض بالخيرات والذخائر المغرية؛ ولذلك ضاعت عليهم فرصة الاستيلاء على «مجدو»، ممَّا جعل ضرب الحصار عليها أمرًا لا مفرَّ منه، وقد امتدَّ زمنُ حصارها سبعةَ أشهر، استسلمت بعدها المدينة صاغرةً، غير أن ملك «قادش» الذي كان رئيس العصاة وحامل لواء الثورة على «تحتمس» قد فرَّ من المدينة، لا لينجو بنفسه، بل ليستعِدَّ لاستئناف الحرب من جديدٍ على مصر، وليكون سببًا في مضايقة الفرعون سنين عدة.
وبعد انتصار «تحتمس» على جموع العدو الذي احتمى داخل أسوار مجدو نفسها، حشد جيشه الذي كان منهمكًا في السلب والنهب، وحاصَرَ المدينة، فأقام المتاريس حولها من الأشجار الخضراء ومن كل أشجار فاكهتها، ثم أخذ الفرعون مكانه في الجانب الشرقي من المدينة، بعد أن خصَّصَ جنودًا ليحموا سرادق جلالته، ثم أصدر أوامره لجيشه قائلًا: لا تجعلوا واحدًا منهم يخرج خلف المتاريس إلا إذا كان آتيًا ليسلم باب هذه الحصون -أي يُلقِي سلاحه- واستمر الحصار سبعة أشهر "أتى بعدها الأمراء خاضعين مسلِّمين متاعهم ومقدِّمين طاعتهم لاسم جلالته طالبين النفس لأنوفهم".