فتح التقارب الإيراني السعودي المجال للكثير من التساؤلات حول احتمالية عودة العلاقات المقطوعة بين القاهرة وطهران، ودعم كثيرون رأيهم بأن الحجة المصرية قد زالت بفتح المجال أمام عودة العلاقات بين طهران وعواصم خليجية مؤخرًا، بعد أن كانت القاهرة ترى في تهديد أمن الخليج تهديدًا لأمنها القومي، وبرز تساؤل عن الدواعي المصرية لاستمرار تخفيض التمثيل الدبلوماسي بين القاهرة وطهران مادامت منطقة الخليج ستشهد تقاربًا غير مسبوق بين بلاد المذاهب المتناقضة.
ومنذ فتح المجال للحديث في هذا الطرح سعت الكثير من المراكز البحثية لتقديم أطروحات أو تساؤلات مشروعة حول الأرضية المشتركة التي يمكن أن تلتقي عليها كلٌ من القاهرة وطهران، كما دارت في رأس الباحثين أسئلة كثيرة حول توقيت "العودة" والشروط المتفق عليها بين الجانبين، وطبيعة المكاسب والخسائر الناجمة عن اتفاق البلدين، وانقسم المتابعون بين مؤيد لذلك التقارب الذي سيؤهله للحصول على تذكرة سفر على متن طائرة إلى طهران، وبين متابع مترقب لما ستؤول له شكل المفاوضات وموقف الخاسر والفائز في النهاية.
في إحدى المرات جمعني لقاء بالدكتور سعيد اللاوندي، استاذ العلاقات الدولية، رحمه الله، والذي حين سألته عن فكرة التقارب بين البلدين خلال عهد الإخوان المسلمين أبدى تعجبه من مسألة قطع العلاقات مع مصر، ورحب كثيرًا ببادرة عودة العلاقات، واعتبر أنه "من غير المعقول أن يكون هناك علاقات ولو رسمية مع دول تعادينا ولا يكون هناك علاقات مع إيران، وهي دولة مسلمة وموجودة في منطقة الشرق الأوسط، وإحدى الدول الفاعلة في الإقليم"، أما عن المخاوف من المد الشيعي فكانت حجة اللاوندي في هذا أن "الاختلاف في المذاهب سيؤدي إلى نوع من الإثراء في مناقشة القضايا الفكرية، وأن محاولات المد الشيعي لا تعدو كونها محاولات لأشخاص ولا علاقة لإيران الدولة بها".
إن أفكار الدكتور اللاوندي مردود عليها بالطبع، وهي أفكار تعبر عن حسن نية مبالغ فيه من الناحية الإنسانية والشعبية، ذلك لأنه تحدث وكأنه لا يدرى طبيعة النظام الإيراني الرافض لأي محاولة للتعامل بأريحية في الإقليم، ويرغب في بسط النفوذ بكل الطرق الممكنة سواء عن طريق الفكر أو الآلة العسكرية.
وبرزت في الآونة الأخيرة أفكار تتعلق بطبيعة المطالب المصرية من الجانب الإيراني والتي يرى البعض أنها أصعب من أن يقبلها الطرف الأخر، والتي – على بساطتها – تمثل تدخلا في الشأن الإيراني الداخلي بشكل كبير – هذا طبعًا بمنطق الإيرانيين – ففكرة تغيير أسماء الشوارع الرئيسية المسماة باسم قاتلي السادات وغيرها من المطالب "الساذجة" لم تكن في صلب المطالب المصرية العميقة والتي لا تزال مربط الفرس في حل الخلاف حول عودة العلاقات، سواء المتعلقة بتسليم المطلوبين أمنيًا في قضية "العائدون من ألبانيا" أو تلك المتعلقة بضمانات ألا تسلك إيران مسلكًا يهدد الأمن القومي المصري من ناحية نشر التشيع أو دعم وكلاء لها في المنطقة وأن تكون دولة طبيعية تتعامل بشكل طبيعي في الشرق الأوسط.
وقد قال لي وزير الخارجية المصري الأسبق السفير محمد العرابي أن الجانب الإيراني سبق في مرات عديدة أن استقبل المطالب المصرية بترحاب شديد، وأنه التقى مسؤولين في إيران – حين كان على رأس الدبلوماسية المصرية آنذاك - أبدوا موافقتهم على كل المطالب المصرية مهما كانت، ليبقى التساؤل هنا ماذا بعد؟
إن الأزمة الكبرى تكمن في أن مصر تعي جيدًا أن هناك مطالب تقدمت بها تخالف الأعراف السياسية الإيرانية والتكوين النفسي سواءً الشعبي أو السياسي، وهي الأعراف التي ترى أن طهران تتحرك في المنطقة بدافع دستوري، ذلك لأن دستورها يخول لها أن تحمي الشيعة في أي مكان طبقًا للمادة 154 من دستورها الذي يكرس لتصدير الثورة ودعم وكلاء وميليشيات في عواصم عربية لتسيطر على صناعة القرار العربي من جانب وتضمن انسيابًا في تدخلها في الأوضاع السياسية كافة، بالإضافة إلى أن "ثنائية الأصوات" داخل إيران وفكرة "التقية" التي تجعل الكذب السياسي أمرًا مباحًا يجعل من الصعب ضبط إيقاع التعامل السياسي مع إيران إذا ما اتهمت في أي أزمة عربية أو إقليمية.
وتكمن الأزمة الأخرى في أن إيران لا يمكن أن تتخلى عن وكلائها مهما حدث، وأنها اعتادت ألا تخسر أرضًا كسبتها، ذلك لأنها تعي جيدًا أن السياسة هي فن الممكن، وأن صديق اليوم قد يكون عدو الغد والعكس صحيح، وبالتالي فهي تحتاج في كل مرحلة من مراحلها إلى أوراق ضغط على المستويات كافة، من أجل أن تضمن حضورًا لافتًا وتفوقًا ملحوظًا على الجوانب المقابلة لها، وهو ما من شأنه أن يجعل من التقارب المصري الإيراني تقاربًا خطرًا على الأوضاع السياسية المصرية الداخلية والخارجية، خاصة وأن المنطقة تمر بالكثير من المنعطفات السياسية والعسكرية في بعض الأحيان وكذلك التحديات الداخلية الأمنية والاقتصادية، وهي أمور تقتات عليها إيران وتعيش عليها وتجعل منها أرضًا خصبة للتواجد الكثيف، وإن نفت إيران وجودها من الأساس.
وهنا تبرز الحاجة إلى التمهل من الجانب المصري في مسألة عودة العلاقات مع إيران، خاصة وأن حالة الصبر الإيراني من صانع السجاد الذي قد يمكث عشرات الأعوام في صنع سجادة واحدة، غير متوفرة فيه حين يسارع في عودة العلاقات مع مصر، وهنا نضرب جرس الإنذار بأن أحداثًا توشك أن تقع إذا فتحنا الباب أمام من يدعو مذهبه الفكري لضرورة السيطرة على الشرق كله سياسيًا وأمنيًا. وأن اليقظة الأمنية المصرية لابد أن تكون عنوان كل المراحل سواء أقيمت علاقات مع طهران أم لا. وأن التروي لابد أن يكون سيد الموقف حتى لا نكون كـ"الناسك الذي لطم على وجهه لما تعجل أمره".