رحل عنا رمز من رموز الوطنية العظيمة الاستاذ جورج إسحق، تعرفت على تلك الشخصية المتفردة عام 1988 أثناء مشاركتنا في تأسيس جمعية النهضة العلمية والثقافية مع الأب اليسوعي الراحل وليم سيدهم، رجل يمتلك يمتلك موهبة القائد المعلم، أستاذ التاريخ بالتربية والتعليم مدير مدارس القديس يوسف حينذاك.
شخصية اجتماعية من طراز نادر، يحظى بحب كل من يتعرف عليه من المسلمين والمسيحيين على السواء، مكتبه أقرب «للتكية» المفتوحة أو «ديوان المظالم»، يلجأ إليه المسلمون للمساعدة فى بناء المساجد، كما يلوذ به المسيحيون لبناء الكنائس، خطيب شعبى مفوة، المسيحى المعاصر الذى رأيته يخطب فى المساجد، دارسا للفقة حافظا للقرآن، لاهوتى وصاحب مدرسة شعبية للتعايش، تراه فى الكنيسة شماسا، وفى المسجد فقيها، وفى ديوان المظالم بمكتبة ابو العربي شيخ العرب، ومن خلال ذلك تم اختياره فى المجلس القومي لحقوق الإنسان دورتين متتاليتين، وكان اختياره لانه يحمل بصيرة سياسى مخضرم ومربى أجيال، ونعاه المجلس: "ينعي المجلس القومي لحقوق الإنسان، الرئيس السفيرة مشيرة خطاب ونائب الرئيس والأمين العام وأعضاء المجلس وكافة الأمانات الفنية والباحثين والعاملين المناضل الكبير الأستاذ جورج إسحق عضو المجلس الذي توفي بعد رحلة عطاء طويلة في الحركة الحقوقية المصرية والسياسة المصرية كان خلالها واحدا من الفاعلين المهمين في تطوير مفاهيم حقوق الإنسان والدفاع عن كرامة الإنسان طوال تاريخه الممتد في العمل العام. ويذكر المجلس القومي لحقوق الإنسان للفقيد الكبير عمله الدؤوب حتي اللحظة الأخيرة من حياته للارتقاء بمنظومة حقوق الإنسان في مصر ودفاعه الصلب عن مواقفه وقناعاته التي كانت تمثل نبراسا وقدوة لأجيال من المصريين علي اختلاف انتماءاتهم، فقد ترك الفقيد الكبير ارثا إنسانيا عظيما وصفحة ناصعة في التاريخ السياسي وتاريخ الحركة الحقوقية المصرية والعربية والدولية. رحم الله فقيد الوطن والإنسانية وتغمده بواسع رحمته".
جورج إسحق الذي لا يعرفة كثيرون
يكتب البعض عن جورج إسحق أنه بدأ من حركة "كفاية" ومع احترامي للحركة والنشاط السياسي للراحل الكريم الا ان الكثيرين لايعرفون أن جورج إسحق تبنى مئات الشباب والشابات من الطلاب، وساندهم فى مبادراتهم الاجتماعية والسياسية والفنية، لم يتوقف نشاطه علي العمل السياسي فحسب بل قضي ثلثي عمره كتربوي تخرج على يديه مئات الموهوبين، واول من علم المواطنة في المدارس، وعن ذلك كتب جورج إسحق :"لعبت المدارس الكاثوليكية فى مصر دورا مهما فى مجال التعليم، ويعود تاريخ المدارس الكاثوليكية فى مصر إلى أكثر ما يزيد على 150 عاماً، وكان أول من فكر فى دعوة رهبان الكاثوليك هو الخديو إسماعيل؛ ففى سنة 1847م أنشئت أول مدرسة للكاثوليك هى القديس يوسف فى الخرنفش، ثم مدرسة الفرير باب اللوق عام 1888م، ودى لاسال بالضاهر عام 1898م، ومدرسة القديس بولس 1890م، ثم مدرسة سان جبريال بسبورتنج بالإسكندرية عام 1900م، ثم كلية سان مارك بالإسكندرية عام 1928م؛ ومن أشهر خريجيها د. عصمت عبدالمجيد الأمين العام الأسبق للجامعة العربية، وبلغ عدد المدارس الكاثوليكية فى مصر الآن 168 مدرسة فى العواصم والأقاليم، وأكثر طلابها من المسلمين؛ حيث تصل نسبتهم فى هذه المدارس إلى أكثر من 80%، ومن أهم الأحداث إنشاء مدارس تابعة لجمعية الصعيد على يد الأب عيروط فى عام 1946 م، هذا الراهب الكاثوليكى المشهور بكتابه عن الفلاح عام 1938 م، وأكد أن منطلق العقيدة الاجتماعية للكنيسة منذ عام 1891 م طبقاً لوثيقة الشؤون الحديثة كانت تتكلم عن حقوق الفقراء والعمال والتركيز على الفقير"
ويضيف جورج إسحق: "للأمانة العامة فى مصر جهاز ثقافى كان يصدر مجلة غير فصلية، ويقيم حوالى 12 معسكرا صيفيا يجمع بين أبناء الوطن مسلميه ومسيحييه، فقرائه وأغنيائه، وكان يركز على موضوع المواطنة، وما هو الدستور، وحقوق الإنسان، ويقيم مؤتمرا سنويا يديره الطلاب بداية من المؤتمر الصحفى وحتى انعقاد المؤتمر والموضوعات التى كانوا يريدون مناقشتها، وفى نهاية اللقاء يحضر وزير التربية والتعليم حيث يناقشه الطلاب فى أمورهم التعليمية.. وأقام الجهاز الثقافى عدة مهرجانات ثقافية فى الصالة المغطاة باستاد القاهرة حضرها عدد كبير من طلاب المدارس يفوق العشرة آلاف طالب، وكانت هذه المهرجانات تتضمن لوحات تعليمية وتربوية وثقافية. وفى هذا الوقت كان يدير هذه الأمانة رجل يستحق كل التقدير والاحترام وهو الأب نبيل غبريال، مدير مدرسة الجزويت".
وتابع إسحق "اهتمت لجنة الثقافة والإعلام بالمدارس الكاثوليكية بمشاكل تربوية هامة وعملت عليها عدة لقاءات مثمرة، من بينها موضوع شديد الأهمية بالنسبة للفتيات وهو احتياجاتهن وأسألتهن فى الفترة العمرية من 13 إلى 18 سنة بالتعاون مع رابطة المرأة العربية، وشارك فى هذا البرنامج الدكتورة شيرين أبوالنجا الأستاذة بكلية الآداب جامعة القاهرة والدكتور مصطفى كامل السيد الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ووالأكاديمى الراحل الدكتور عماد صيام والدكتور سامح فوزى ، ولجنة التنسيق بالامانة الصحفى سليمان شفيق وأمل أشعيا، وذلك من خلال عدة ورش عمل ".
جورج إسحق والعمل السياسى
شارك أيضاً في مقاومة العدوان الثلاثي على مصر، ثم انتقل إلى حزب العمل، وشارك في عدة أحزاب منها حزب التجمع، ولكن الدور الأشهر له كان في المشاركة في تأسيس حركة "كفاية" وتحمّل إسحاق على عاتقه صعوبات بداية إنشاء الكيان وواجه الملاحقات الأمنية والاعتقالات على الرغم من كبر سنه، ولم يكتف بذلك، بل امتدت الضغوط ليواجه كذلك مع بقية زملائه قضايا أخرى، حتى وصلت الحركة التي اقتصرت عضويتها في بداية إنشائها على 300 شخص إلى ما يزيد على 20 ألفاً، وأصبح لديه منسقون في 24 محافظة.
اُختير منسقًا عامًا لحركة «كفاية» بعد البيان التأسيسي لأول مؤتمر عقدته الحركة في سبتمبر 2004
يتمتع بالإحساس العميق بالانتماء الوطني الذي لا يميز بين التيارات المختلفة، التي جعلت العمل معه مسألة في منتهي السهولة، ولعل ذلك ما جعل جورج إسحاق يري حق كل القوي في العمل الوطنى بمن فيهم حق الإخوان المسلمين في الوجود والمشاركة السياسية، بل مشاركته في أغلب احتفالاتهم ومؤتمراتهم، وكان ذلك سبباً رئيسياً في خلاف الكثير من السياسيين، فأنتقدوه، لكنه غير رأيه بعد ثورة 30 يونيو التى شارك فيها .
اعتُقل إسحق في أحداث إضراب 6 أبريل 2008، وكانت هذه المرة الثانية التي اعتقل فيها.
ذلك هو جورج إسحق، الشماس الفقيه، المواطن وشيخ العرب البورسعيدي، المحلق فى سماء الوطن، القبطى المصرى خليفة مكرم عبيد، نموذج جديد لوطن جديد قادم من أعماق الجرح، وطن سوف ينتصر على الفساد والتخلف والطائفية، ما دام به شخصيات مثل هذا الراحل الكريم .