ترى مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن هناك ست دول ستقرر مستقبل الجغرافيا السياسية عالميا، وأن هذه الدول التي وصفتها بالقوى المتوسطة من الجنوب العالمي، لا تتماشى تماما مع واشنطن أو بكين، ما يعني أنها تمتع بالحرية في إنشاء قوى جديدة، مؤكدة أن هذه الدول يجب أن تكون محور سياسة الولايات المتحدة.
وذكرت المجلة الأمريكية، أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قام الشهر الماضي بجولة خارجية نادرة استمرت حوالي أسبوع وشملت مدينة جدة السعودية وهيروشيما باليابان، وذلك بهدف كسب دعم البرازيل والهند وإندونيسيا والسعودية التي لم تتخذ جميعها موقفا من الحرب الروسية حتى الآن، حيث أصبحت هذه الدول وغيرها من الدول الرائدة في الجنوب العالمي، تتمتع بقوة أكبر من أي وقت مضى.
وتعود أسباب الثقل الجيوسياسي لهذه الدول في استفادتها من الأوضاع الإقليمية في محيطها، وكذلك الاستفادة من التوترات القائمة بين واشنطن وبكين. ورغم النفوذ والفاعلية الكبيرة الذي تتمتع به هذه الدول حاليا في الجغرافيا السياسية مقارنة بفترات ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها ماتزال أقل قوة من القوتين العظمتين في العالم الولايات المتحدة والصين.
وأوضحت المجلة أنه في شمال العالم، تشمل القوى المتوسطة كلا من فرنسا وألمانيا وروسيا وكوريا الجنوبية، وغيرها، وباستثناء روسيا، لا تخبرنا هذه الدول بالكثير عن الديناميكيات المتغيرة في موازين القوى والنفوذ، حيث إن هذه الدول ما عدا روسيا متحالفة مع الولايات المتحدة.
بينما نجد أن القوى الوسطى الست الرئيسية في الجنوب العالمي، وهي: البرازيل والهند وإندونيسيا والسعودية وجنوب إفريقيا وتركيا، ليست متوافقة تماما مع أي من القوتين العظميين أمريكا والصين، وبالتالي فهي تتمتع بالحرية في خلق قوى جديدة.
واعتبرت المجلة أن هذه الدول الست وهي أعضاء في مجموعة العشرين تنشط في كل من الجغرافيا السياسية والاقتصادية، وأنها باقتصاداتها الكبيرة والمتنامية، تستمد نفوذها من سياسات المناخ الدولية.
وأوضحت "فورين بوليسي" أنه لا يمكن أن يكون هناك حل لتحديات المناخ دون مشاركة هذه الدول الست، حيث تحتاج السياسات المتعلقة بإزالة الغابات والكربون وإيجاد حلول إبداعية لتمويل أهداف المناخ إلى مشاركة بناءة من هذه الدول.
وأرجعت المجلة تزايد أهمية الدول الست أيضا لعدة عوامل، من بينها: التطورات التاريخية طويلة المدى، والاتجاهات العالمية الحديثة.
وبالنسبة للتطورات التاريخية طويلة المدى، فإن التطورات التي شهدها العالم منذ الحرب الباردة، أتاحت لهذه القوى - وفقا للمجلة- كسب مزيد من القوة في العلاقات الدولية، موضحة أن العالم تراجع خلال السنوات الماضية عن العولمة، ما أسهم في تشكل علاقات جيوسياسية وجيواقتصادية جديدة على المستوى الإقليمي. وأصبحت الدول الست تمارس دورا قياديا في محيطها الإقليمي، وسيصبح بعضها مركزا أكثر أهمية للتجارة الإقليمية.
وفيما يتعلق بالاتجاهات العالمية الحديثة، اعتبرت "فورين بوليسي" أن قوة الدول الست تتزايد من خلال النفوذ الذي تكتسبه من المنافسة المحتدمة بين الولايات المتحدة والصين، بجانب دورها المتعاظم في سياسات المناخ الدولية.
واستعرضت المجلة الأمريكية دور الدول سالفة الذكر في العقوبات عقب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث رفضت هذه الدول الاستجابة للغرب في المساعدات العسكرية التي قدمها لأوكرانيا، أو العقوبات التي تم فرضها على روسيا.
واعتبرت المجلة أن أهم تأثير لهذه الدول على الحرب كان دورها القيادي في معارضة، وفي بعض الحالات تقويض العقوبات الغربية على روسيا، بدعوى أن الحرب تؤثر فقط على الأمن الأوروبي وليس على الأمن العالمي، وأنها لا تعزز مصالحهم الوطنية في التنمية، وخفض الديون، والأمن الغذائي، وأمن الطاقة، ومجالات أخرى.
ويأتي على رأس هذه الدول تركيا التي فرضت الولايات المتحدة عقوبات على 4 شركات تركية لانتهاكها العقوبات الغربية. كما أن معظم القوى الوسطى الأخرى ظلت محايدة بشدة. فيما حافظت الدول الست على علاقات تجارية وغيرها من العلاقات مع روسيا أو عززتها منذ بداية الحرب.
ويتوقع صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد الروسي سينمو بنسبة 0.7 في المائة هذا العام، وهو ما يأتي مخالفا لآمال الدول الغربية، ويعود الفضل فيه إلى مساعدة الدول الست لروسيا لتجاوز تأثير العقوبات.
ويتجلى النفوذ المتزايد بشكل كبير للقوى الوسطى في الجنوب العالمي أيضا في مبادرات الوساطة، حيث إن تركيا - وفقا للمجلة- هي القوة الخارجية الوحيدة المؤثرة في الحرب في أوكرانيا، حيث كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مفاوضا رئيسيا بشأن صفقات الحبوب، وشارك في محادثات السلام في بداية الحرب، وهو في وضع جيد لتسهيل المحادثات المستقبلية إذا اختارت الأطراف المتحاربة ذلك. كما تقدم الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بمبادرته الخاصة. ونصبت الهند نفسها كوسيط سلام في المستقبل.
بلا شك، هذه الدول في وضع جيد الآن للتوسط في صراعات أخرى أيضا. فمكانة الهند على سبيل المثال كبيرة في هذا الصدد، حيث إنها تساهم بنسبة 8 في المائة من قوات حفظ السلام النشطة التابعة للأمم المتحدة، وكذلك الحال بالنسبة لإندونيسيا وجنوب إفريقيا.
ونبهت المجلة إلى أن الخبرات العلمية والهندسية الموجودة في هذه الدول تجعلها قادرة - إذا اختارت بسبب أي تهديد- أن تصبح قوة نووية، وسط مخاطر من انتشار الأسلحة النووية في جنوب الكرة الأرضية.
ورأت المجلة أن التركيز على دول "بريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) باعتبارها الثقل الرئيسي الموازن للهيمنة الغربية، يجعلنا لا ندرك بواقعية أهمية الجنوب العالمي، بمعنى أن وجود الصين وروسيا في "بريكس" يخفي الصعود الحاسم للدول الست.
قد يختلف البعض مع فكرة أن الدول الست ما تزال جميعها أسواقا ناشئة، وأن السنوات الأخيرة لم تكن جيدة على مستوى الاقتصاد.ولكن بشكل عام، فإن الحجة القائلة بأن هذه القوى أصبحت وستستمر في أن تصبح أكثر قوة من الناحية الجيوسياسية ما تزال قوية، خاصة وأنهم قادرون على اكتساب المزيد من النفوذ، وهناك بالفعل مظاهر واضحة لقوتهم الجديدة.
ولفتت "فورين بوليسي" إلى أن واشنطن بحاجة إلى التنبه إلى هذه التطورات لضمان عدم حدوث ضعف كبير في موقفها في ميزان القوى العالمي، وأنه مع رفض الدول الست الوقوف خلف الولايات المتحدة في الحرب الروسية الأوكرانية أو في المنافسة مع الصين، فإن التهديد المتمثل في استمالة الصين وروسيا لهذه الدول عبر توسيع مجموعة البريكس هو تهديد حقيقي، ويجب معالجته.
وأخيرا، تحتاج واشنطن إلى استراتيجية دبلوماسية جيدة ليس فقط تجاه كل من الدول الست الرئيسية، ولكن تجاه الجنوب العالمي على نطاق أوسع.
ويجب أن تبدأ هذه الاستراتيجية بزيارات أكثر رفيعة المستوى من قبل دبلوماسيين أمريكيين بارزين، مع تعزيز التجارة وسهولة الوصول إلى السوق الأمريكية، مع قدرة واشنطن على التنبؤ بشكل أفضل بردود فعل الدول الست والجنوب العالمي على قرارات السياسة الأمريكية الرئيسية، ومراعاة ذلك.
ونبهت المجلة إلى أن قوة ونفوذ الدول الست وجميع القوى الوسطى ستتعرض لضربة قوية إذا تصاعدت حدة التوترات بين الولايات المتحدة والصين بشكل كبير وتحولت إلى مواجهة على غرار الحرب الباردة، حيث من المرجح أن تضطر هذه الدول حينها إلى الاصطفاف مع هذا الجانب أو الجانب الآخر.
العالم
فورين بوليسي: ست دول ستقرر مستقبل الجغرافيا السياسية العالمية
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق