واصل المفكر الدكتور فرج فودة تمرده، وأصدر كتابه "قبل السقوط" في العام ١٩٨٥ بعدما اعتذرت عن نشره عدد كبير من دور النشر، وحذره أحد الأصدقاء قائلا: أنت تضع نفسك أمام فوهة المدفع! ليتحدث فودة إلى نفسه قائلا: بل في فوهة المدفع ذاتها!
وبعدما حققت وزارة الداخلية ضربة قوية بالكشف عن جماعة متطرفة باسم "الناجون من النار" خططت لاغتيال وزير الداخلية آنذاك، وضُبِطَت لديها قوائم اغتيالات حل اسم الدكتور "فودة" في المركز الثالث، ما أثار استياؤه وعبَّر عن ذلك في مقدمة كتابه الذي أصدره في العام ١٩٨٧ بعنوان "الإرهاب" قائلا: سأبذل قصارى جهدي لأحتل المقدمة؛ فالشجاعة تُقاس بعداء الجبناء، والسمو يُقاس بعداء الوضعاء".
بدورها خوَّفت كلماته وأفكاره أنصار التيارات الدينية المتطرفة، فوضعوه على قوائم الاغتيالات حتى حققوا مطلبهم في يونيو من العام ١٩٩٢. فما هي السمات الفكرية التي تمتعت بها كتابات "فودة" وأسقطت قيادات التطرف في الحيرة والارتباك؟
تشير القراءة الواعية لمؤلفات الدكتور فودة إلى ملاحظات لا يمكن تجاهلها، أولها صعوبة المواجهة التي خاضها مع التيارات المتطرفة، والتي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة باختراق المؤسسات الصحفية والإعلامية واحتلال منابر المساجد وممارسة الأنشطة السياسية بشكل علني، فكلمة رفض واحدة منه يقابلها مئة كلمة متنوعة المستويات وصولا إلى الشتائم والتهديدات.
ثانيها: الإحاطة العبقرية بأبعاد مشكلة التطرف، حيث الجوانب الفكرية والأمنية وإدراك أساليبهم في التلاعب بالناس والمسؤولين، إلى جانب طرح الحلول وتقسيمها ما بين حلول للمدى القصير وأخرى للمدى الطويل. ثالثها: شجاعة المواجهة، فهو لم يتردد في مهاجمة الإرهاب وأنصاره، منطلقًا من حسه الوطني وإيمانه الراسخ بضرورة الحفاظ على مصر قبل السقوط.
خلال أعماله، يشهد القارئ كيف تحققت نبوءة المفكر حول مستقبل هذه الجماعات، وهو ما حدث فيما بعد للإخوان في مصر، والنهضة في تونس، وحزب حسن الترابي وعمر البشير في السودان، والسؤال الآن: كيف قرأ "فودة" مستقبل المتطرفين؟ وما هي التحذيرات التي أطلقها قبل سقوط المنطقة في يد الإرهاب؟ وما هي تعليقاته على فكر الجماعات الناشطة بدأب في تجنيد الشباب؟
تونس والنهضة.. مستقبل الجماعات المتطرفة
يكتشف القارئ مع إعادة قراءة مؤلفات "فودة" أن بصيرته صائبة للغاية، فالمفكر عايش لحظات فوران الجماعات الإسلامية تحت السطح ومحاولات الظهور والسيطرة، لكنه لم يتمكن من رؤية وصول هذه التيارات إلى قصور الحكم في بلادها، لم ير مثلا وصول الإخوان في مصر إلى قصر الاتحادية وتمكنهم من الحكم لمدة عام كامل، لم ير التجربة التونسية واستحواذ النهضة الإخوانية على البرلمان والحكومات، ودعمها للمرشح الإسلامجي المستتر المنصف المرزوقي حتى وصوله لقصر قرطاج، فقط رأى وصول الإسلاميين للحكم في السودان، فطرح "فودة" رؤيته لمستقبل هذه الجماعات، لنكتشف اليوم ونحن نعيد قراءة أعماله مدى عمق بصيرته ونصاعة فكرته.
في أواخر الثمانينيات، زار "فودة" تونس، والتقى عددًا كبيرًا من شباب الحركات الإسلامية، وقارن بين ما يؤمنون به وما يصدر عن قيادات هذه التيارات من شعارات وأفكار تأخذ الصورة الليبرالية لتسهيل خداع الأفراد والمؤسسات المتخوفة من تجربتهم الوشيكة.
أطلق "فودة" تسمية "حزب لا بأس" على حركة النهضة التونسية، وذلك لقدرتها الفائقة على خداع المتربصين بها، فهي - بحسب فودة- تتبنى معك أي شيء، وتوافق على كل شيء، وتنثني معك أينما انثنيت، وعبثًا يذهب جهدك إن حاولت إحراجها. وهذه العبارة تشرح قدرة حزب النهضة على نفاق المثقفين والليبراليين، وسعيه الدؤوب لطمأنة الرأي العام، ولصناعة وجه برئ لهذا التيار، حيث يخبرنا "فودة" أن محاولة وضع الحزب في مأزق لمجرد توجيه أسئلة من نوع ما موقفك من صناعة الخمور لو وصلت للحكم؟ لأجابك لا بأس. والسفور؟ لا بأس. ولباس البحر؟ لا بأس. والاختلاط؟ لا بأس.
يقر مفكرنا أن الشعارات المطمئنة التي يعلنها الحزب على لسان قياداته ليست لها علاقة بالقاعدة الجماهيرية المؤمنة بالخلافة الإسلامية والجهاد، فالكبار من القيادات يعلنون شعارات حزب النهضة، أما الصغار من الشباب فيؤمنون بأفكار حزب التحرير الإسلامي، وهي مقولات قريبة من أفكار "التكفير والهجرة" و"الناجون من النار" و"الجماعة الإسلامية"، وكأن "فودة" يشير إلى مدى التوافق الضمني بين الكبار والصغار، فللكبار أن يتلونوا وينافقوا، بينما الصغار يظلون على المبادئ الحقيقية للجماعة، التي ستُطبق فعليًا لحظة الوصول للحكم، ولا يضر الكبار ولا الصغار أن تكون هناك مؤامرة ضمنية على تمرير الكذب والنفاق من أجل تحقيق الأهداف السامية للدين كما يظنون.
خلال حديثه عن النهضة، حذَّر "فودة" من شخصيات الحزب آنذاك، والعجيب أن هذه الشخصيات هي المسيطرة حتى هذه اللحظة، ما يكشف حقيقة مناداتهم بتداول السلطة وهو الأمر المفقود بينهم بالأساس، ساعتها حذَّر "فودة" من راشد الغنوشي المقيم في باريس آنذاك، حيث وصفه بأنه "يلدغ كالنحلة ويحوم كالفراشة"، يعيش في فرنسا ويحلم بالعودة إلى الوطن كما عودة الخميني في إيران، كما تنبأ "فودة" لتيار الإسلام السياسي أن يدفع ثمن تزعم الغنوشي للحركة، وهو ما تحقق بالفعل هذه الأيام فقد وصلت تونس لطريق مسدود بعد سيطرة النهضة الإخوانية على البرلمان، واستمالتْ في صفها رئيس الوزراء هشام المشيشي، ما دفع الرئيس التونسي قيس سعيد لاتخاذ إجراءات جريئة لإنقاذ البلاد في ٢٥ يوليو ٢٠٢١.
الإرهاب يتربص بمصر
تخوَّف "فودة" من وقوع دول شمال أفريقيا في قبضة التيارات الإسلامية المتطرفة، مؤكدًا أنها سوف تسعى لتهديد حدودنا الغربية (وهو ما يحدث حاليا على الحدود الليبية) كما خشي من التربص بمصر من الجنوب خاصة بعد وقوع السودان في قبضة "الجبهة الإسلامية" بقيادة الإخواني حسن الترابي وتحوله إلى مستقر للإرهابيين تحت شعارات الثورة الإسلامية.
كما ألمح إلى ضلوع بعض الدول مثل إيران آنذاك في دعم السودان للتحريض ضد مصر واستخدام ملف النيل وإقامة سدود عليه، وهو ما تم لعبه فيما بعد على يد الرئيس السوداني المخلوع الذي ظل لآخر يوم له في السلطة يتجنب التنسيق مع مصر بخصوص ملف سد النهضة، وقد لاحظ المراقبون مدى اعتدال الموقف السوداني بعد الإطاحة بحكم البشير في أبريل ٢٠١٩.
تصدى "فودة" لفكرة تجميل السودان بعد حكم الإسلاميين، في الوقت الذي سارع فيه أنصارهم في مصر بالإشادة بالتجربة السودانية، لدرجة أن أحد أقطاب تلك التيارات بعد زيارة له للسودان صرح بأن السودان يعاني فقرًا شديدًا ومشاكل اقتصادية صعبة، وأرجع السبب لابتعادهم عن شرع الله في الفترات السابقة، كما وعدهم بأن تطبيق الشريعة سوف يُبدل فقرهم إلى غنى وعسرهم إلى يسر. وهو مالم تجده السودان حتى أيامنا هذه، سوى محاولات التآمر من قبل المتطرفين وجماعة الترابي على مصر والمنطقة بأكملها.
عبر عدة مؤلفات ومقالات، ترك المفكر الراحل فرج فودة رسائله وخبراته في المواجهة الفكرية، ما جعل عناصر الجماعات الإرهابية تقف مرتبكة أمام كلماته وكتاباته، فلم تجد إلا الهجوم بالشتائم وفاحش الهجاء والاغتيالات.