الدكتور عبدالسلام عيد، أحد فناني مدينة الإسكندرية، الحاصل مؤخرًا على جائزة النيل أعلى وسام مصري للمبدعين فرع الفنون. وهو فنان تشكيلي اتخذ من الفن المصري القديم نبراسًا يعبر به للمستقبل، وكان لنا معه هذا الحوار:
■ حدثنا عن جائزة النيل للفنون.. وكيف استقبلت خبر حصولك على هذا الوسام؟.. وهل كنت تتوقع الحصول عليها؟
- أنا سعيد سعادة بالغة، ذلك لأن جائزة النيل هي من قلب مصر، وأن العطاء هنا به احتضان للمبدعين والذين قدموا مشوارًا إبداعيًا في إطار تحقيق المعاني والقيم الجميلة من خلال مسيرتهم لمصر، وفي الحقيقة كان ترشيح جامعة الإسكندرية لي أمر مشرف، وشعرت بأنني أنتمي لكيان متماسك مع أبناء المدينة من فنانين ومبدعين وإدارة حكيمة تدير الفن والتعليم في مصر، كما أن جامعة الأقصر قد رشحت اسمي أيضًا لجائزة النيل، وذلك يعود للتواصل بيني وبين الجامعة في مجال الفنون التشكيلية، والذي دام على مدار عدة سنوات ماضية، فكان هذا التواصل بين الجامعتين الإسكندرية والأقصر رائع وجيد ولا تستطيع كلمات الشكر أن تعبر عن مدى امتناني لهذا التواصل الرائع. وهناك فنانون كُثر في مصر يحاولون بكل جهدهم أن يربطوا بين التراث والموروث وبين الأعمال الفنية، وكان شرف لي أن أكون أحد المكرمين الذين يجاهدون في سبيل تحقيق أجمل المعاني لتاريخنا ولتاريخ مصر العظيم.
■ هذه المرة الثالثة على التوالي التي يحصل فيها فنان تشكيلي على جائزة النيل للفنون.. كيف ترى ذلك؟
- عندما ننظر للتراث المصري القديم نجد أنه قائم على الفنون التشكيلية، فإذا نظرنا إلى الأهرامات نجد أنه إنجاز يبهر العالم بقانون بناء هذا الهرم من حيث تكوينه وقوانين بنائه، هذا الصرح العظيم والعديد من الآثار التي ما زالت تبهر العالم كله، فنحن نستشهد بهذا التراث العظيم، وفي نفس الوقت نحاول بقدر الإمكان أن نسهم في هذا العطاء الجميل والقيم، وهو الفنون، وأحببت الفنون منذ أن كنت صغيرًا وشعرت أنني أنتمي لهذا العالم والكثير من أعمالي الفنية موجودة على جدران الكليات.
■ تميزت تجربتك الفنية بعمل الجداريات الكبيرة والضخمة حدثنا عن تلك التجربة؟
- من هذا المنطلق نجد أن الفنون التشكيلية حفرت مكانها في عالم الفنون، ذلك أن خريجي كليات الفنون يتدربون على الرسم والتعبير على الجدران والأسقف، فهذه الخبرة تناثرت في مصر وفي ميادين مصر، وفي الحقيقة هناك العديد من الجداريات الفنية الموجودة في شتى ربوع مصر، من القاهرة إلى الإسكندرية إلى الأقصر وأسوان، وأدركت أن هذه اللغة ما زلنا نتغنى بها، لأن أجدادنا هم من حفروا هذه اللغة وأدهشوا العالم بها.
■ حدثنا عن تجربتك كأستاذ للفن التشكيلي؟
- في الحقيقة أنني حينما دخلت كلية الفنون الجميلة استفدت كثيرًا من أساتذتي، فأنا كنت مجرد محب للرسم خلال أيام المدرسة، لكنني فوجئت بالأساتذة بالكلية يستقبلون الطلبة الواعدين ويحتضونهم ويفجرون فيهم روح الإبداع الحقيقي، وأذكر الكثير من الأساتذة ومنهم العميد أحمد عثمان والذي كان يتعامل مع المبدعين بشكل خاص، وذلك من خلال دعمه المستمر لإثقال موهبتهم وحثهم على المزيد من العطاء من خلال الجوائز، وفي الحقيقة أنني كنت من المحظوظين الذين وجدوا هذا الدعم من أساتذتي، وجعلوني أثق في موهبتي، وأعمل على ثقلها، ومنهم الدكتور سيف والي والذي كان مشجعًا بشكل مدهش، والدكتور كامل مصطفى والدكتور مصطفى عبد المعطي والذي كان عطاؤه غير محدود والدكتور حامد عويس، فكل هؤلاء كانوا يتلقفون التجربة ويناقشونني فيها، وهم من لفتوا انتباهي لحب لغة الشكل وأنني أفضل التعبير بالشكل.
وأحمد الله على وجود كل هؤلاء العملاقة من الأساتذة بجواري، فقد تعلمت من خلال أساتذتي الكثير من القيم، وبالتالي أقوم بتعليمها للأجيال الجديدة، فقد أعطونا عصارة التجربة الفنية المصرية، وأن مرجعنا في الفنون هي الحضارة المصرية القديمة العظيمة، وما حققته تلك الحضارة في مجال الفن والتشكيل المُدهش، ففي الحقيقة أخذنا منهم هذه التوصيات ونقوم بتعليمها للأجيال الجديدة القامة، وهو الأمر الذي يلاقى رواجًا كبيرًا بين طلبة الفنون الجدد والذين ينصتون بشكل جيد لكل ما يقال لهم وينقل إليهم من خبرات، حيث يتعرفون على التراث، والذي يؤثر بشكل كبير على أشكال التشكيل لديهم. والذي يظهر جليًّا في محاولاتهم لإعادة محاكاة الواقع دون أي ارتباط أو تأثر بعوامل خارجية، بل إن الارتباط الحقيقي وراء أعمالهم هو نقل الروح المصرية لتلك الأعمال، وكنت أشعر بالنجاح الكبير من خلال تبني هؤلاء الفنانين الجدد، ومشارعهم الجديدة التي تعكس تلك الروح الأصيلة.
■ حرصت بشكل كبير على تقديم الروح الإنسانية ومعاناة الإنسان من خلال أعمالك.. حدثنا عن تجربتك الإبداعية؟
- أهم أمر في حياتي هو تاريخ الفن، والذي أبدأه من حياة الإنسان البدائي «رجل الكهف» ورسومه داخل الكهوف، والتي كان يستخدم فيها دماء الحيوان قبل اختراع الفرشاة والألوان، وكيف كان هذا الرجل يتفاعل مع الواقع المحيط به ويتفاعل معه وكيف يُسقط أحاسيسه ومشاعره ومخاوفه وإعجابه بالواقع المحيط، وكل هذا نستطيع قراءته من خلال رسوم الكهف، فأنا تعلمت الكثير من الإطلالة الأولى للرسوم المرئية والفنون المرئية على جدران الكهوف وبدأت من هنا.
وحينما بدأت بالتجوال حول العالم كنت أُطل على فنونهم وأجوب المتاحف، كنت حريصا على أخذ أعمال لي والكثير من تلك الأعمال تم اقتناؤها وموجود ببعض المتاحف بالخارج مثل إيطاليا والبرازيل وألمانيا، وكان يتم اقتناؤها باعتزاز، فهذا التبادل بين العالم وهذه الثقافات هو رائع، فنحن من خلال هذه الفنون نشعر بأننا أمة واحدة وشعب واحد ورؤية واحدة، ونتحدث لغة واحدة من خلال الفن، فالفنون التشكيلية بالذات هي من الفنون التي يفهمها الجميع دون الحاجة إلى ترجمة فهي لغة الصورة واللغة المرئية التي تعطي الكثير من المعاني دون أن نتحدث، ففي الحقيقة أن أغلب تلك الزيارات قد ساعدتني كثيرًا في التعرف على الكثير من الفنون.
■ الفنان التشكيلي مزيج من خبرات متراكمة وخليط من القراءات والثقافات والخبرات كيف كان تأثير ذلك على تجربتك؟
- بداياتي الأولى كان لها الأثر الأكبر في تكوين شخصيتي لاسيما حصة الرسم والفنون التشكيلية على وجه التحديد، وهو الأمر الذي لفت نظر أساتذتي لي، وقاموا بمساندتي ودعمي من خلال توفير الألوان ودعموا موهبتي في الفن التشكيلي فأنا كنت من المحظوظين.
والفنون التشكيلية أمر مهم للإنسان المصري، فقد أثبت للعالم كله أنه لا يوجد أروع مما قدمه الإنسان المصري القديم للعالم في لغة الفنون التشكيلية، ومن هنا شعرنا بهذا التميز وأننا مدفوعون دفعًا لمحاكاة هذا الفن ونتواصل معهم حتى تبقى هذه الحضارة العظيمة على ما هي عليه، والتي قدمت للعالم إيقاعات مصرية خالدة، فطبيعة المكان الإنسان المصري بأن عطاءه متواصل دائما يعطي للجميع، وأنا مدين لجميع أساتذتي الذين أعطوني عصارة خبرتهم، وأنا أدين لهذا العطاء الوفير.
كما أنني ابن مدينة الإسكندرية والتي تمتاز بوجودها على حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو له تأثير كبير على كل أبناء الإسكندرية واضح جدًا، فنحن نرى تغيرات في السماء وفي البحر وفي الواقع المحيط به، تلك التغيرات المدهشة التي تدفع الإنسان إلى تأمل الواقع المحيط به، وتدفع الفنانين التشكيليين في تأمل السماء وروعة البحر وحركة المراكب كل تلك المعطيات التي تؤثر في وجدان وخيال الفنان السكندري والتي تنعكس بالتالي على أعماله، ولا أنكر أن البحر كان له دور كبير جدًا في حياتي، والذي انعكس على موضوعاتي الفنية من تأثير الشفق وعلاقة الشمس بالأرض والسماء بالبحر، كل هذه الأشياء ستجدينها في الكثير من أعمالي فروح البحر حاضرة.
والبيئة لها تأثير قوي على المبدع والفنان السكندري المحظوظ بتواجده على حوض البحر المتوسط، هذه البيئة التي تدفعه على الإبداع.
والخيال أهم ما يميز الإنسان المصري لديه قدرة فائقة على تحريك خياله، وفتح أمامه الآفاق في مجالات عدة، فنجد على سبيل المثال تلك القدرة على إعادة تشكيل الأشياء المخربة والتي يُعاد ترميمها بشكل مبدع ومبتكر ومدهش، فالإنسان المصري لديه القدرة على التشكيل، ويدرك جيدًا الأشياء ويحاول أن يضعها في شكلها الجميل والرائع، فكل تلك الأشياء تظهر قدرة الإنسان المصري على التشكيل ووضع رؤيته الفنية، ولديه القدرة على التعامل مع الواقع المري والفكري والواقع المعاش.
كيف يمكن تصنيف أعمالك الفنية وتجربتك الإبداعية؟
يمكن تصنيفي بأنني ابن من أبناء البحر المتوسط، فأبناء حوض البحر الأبيض لديهم كل تلك السمات، فالإنسان المصري لديه رصيد هائل من الحضارات، وبالتالي حينما يمد يديه يجد أنه يجرب في أشياء كثيرة، وأعتبر أن التجريب هو عنصر مهم جدًا للإنسان المصري، ولا يستعصي عليه أي شيء في أي مجال، فلديه قدرة رائعة على استنباط الحرفة ويقوم بتوظيفها بشكل رائع ومدهش، ويلتقط الحرفة والأداء ويعبر عنه بثقة وبجمال، والذي يظهر جليا في بنائه المعماري، فهو يحترم الجهد والتأمل والإبداع ويستمتع به ويتغنى به.
■ الحركة النقدية التي تواكب الأعمال الفنية التشكيلية.. هل ترى أننا نحن في حاجة لوجودها بشكل أعمق؟
- أريد أن يكون هناك المزيد من الاندماج في اللغة التشكيلية وفي الفنون التشكيلية، فنحن في حاجة ماسة إلى مزيد من الاحتضان النقدي والالتفات إلى هذه اللغة العظيمة، وهي لغة الفن التشكيلي، فنحن نحتاج إلى مزيد من العون والترحيب بالمبدعين.
وأما عن موضوع المقالات النقدية العلمية التي تواكب الحركة الفنية التشكيلية، أرى أن الحركة الفنية التشكيلية في حاجة إلى أن تتوقف عند إبداع الفنانين التشكيليين وتُعيد تقديمهم بطريقة جيدة وبها وعي بحقيقة لغة الفن التشكيلي، ولابد أن يقوم القائمون على هذا الأمر بقراءة تاريخ الفن التشكيلي منذ أن كان الفنان يقوم بالرسم على جدران الكهف، وهو الأمر الذي أكون حريصًا جدًا على تعليمه لطلابي، وهو العودة إلى رسوم الكهف والتلقائية التي تحويها تلك الرسوم من خلال فطرته، والتي تنعكس على تجربتهم، فنحن نحتاج إلى تصفية وتنقية لغة الشكل من العبث والرؤية القصيرة.
■ كيف ترى عمليات الاقتباس أو سرقة الأعمال الفنية.. وكيف يمكننا الخروج من ذلك؟
- في هذا الأمر نرى شقين الأول هو البعد الأكاديمي والاطلاع على كل ما أبدعه الإنسان المصري القديم والمعاصر والإبداع العالمي أيضًا، والعالم حولنا يبدع في كل مكان وفي كل أرض، فالإنسان مهما كان مكانه لا يتخلى عن مكانه وعن انعكاس هذا المكان، وأننا ما زلنا نرى ملامح الفن البدائي متواجدا بيننا، والذي نجده على جدران المنازل والبيوت، فالإنسان المصري منذ آلاف السنين تتجلى أعماله الإبداعية على الجدران.
والشاب المصري اليوم يتأثر بالفن المصري القديم، فالتراث المصري راسخ بداخلهم، فأنا على المستوى الشخصي أُدهش بما يقدمه الطلبة من مشروعات فنية لدرجة أنني أحب أن أحتفظ ببعض كراساتهم الإبداعية، والتي أجد بداخلها حلولا وتلقائية تحاكي الفنان البدائي وتلقائيته وحبه وعشقه للتشكيل، فالواقع الإبداعي في مصر محمي ويقدم كل ما هو رائع ويترك بصمته وأثره.
تعلمت الكثير من الإطلالة الأولى للرسوم والفنون المرئية على جدران الكهوف
ومصر لديها صحوة وقدرة على حماية الفنون التشكيلية والقدرة والحرص على الحفاظ على الفنون المرئية والتشكيلية، وهناك عين ترى وكل ما هو خارج المألوف وتقوم باستبعاده ولفظه، وعمليات الاقتباس لم تكن موجودة بهذا الشكل البشع كما نراه الآن، وعمليات السرقة والتصميم وينسبها لنفسه أمر مريع، ومفجع، فسرقة الأعمال الفنية أمر لا يجب السكوت عليه، ولا يوجد أقسى من أن ينسب شخص أفكار غيره له، ويجب التصدي إلى مثل هذه الأمور.
ولكن نرحب بالتنافس الشريف بين الجميع، وأرى أنه لابد من الإسراع في عمليات تنسيب الأعمال واللوحات الفنية، وأن يكون لكل عمل فني رقم يشبه أرقام الإيداع للكتب وهو الأمر الذي سيحفظ ويحمي حق الفنان.
كما أرى أننا في مزيد إلى مثل هذه الحوارات التي تجوب داخل عالم الفنانين وإعادة تقديمهم للمجتمع وعرض تجاربهم الفنية.
التراث المصرى القديم قائم على الفنون التشكيلية