ربما يأتى يوم تطلب فيه واشنطن لنفسها التطبيع مع دول الشرق الأوسط تمامًا كما تطلبه الآن لحليفتها إسرائيل التى ما زالت توصف بالكيان المنبوذ رغم مضي 75 عامًا على إعلان تدشين ما تسميها "دولة".
ليس ذلك محض تمني، لكنها معطيات الواقع إذا تفاعلت معها دول المنطقة بما يحقق استقلالها الاستراتيجى ومصالحها العليا على نحو يمكّنها من فرض خيار السلام وفق قرارات الأمم المتحدة بشأن إقامة دولة فلسطينية على حدود ما قبل 5 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
"الأرض مقابل السلام" عنوان المبادرة العربية الرئيسية لإنهاء الصراع مع الكيان الصهيونى، فيما الطرف الآخر يريد السلام والتطبيع الكامل بلا ثمن يدفعه ودون تنازل يقدمه مقابل دمجه عبر علاقات طبيعية؛ وشأنه فى ذلك شأن الولايات المتحدة الأمريكية التى تسعى دائمًا لتحقيق مصالحها العليا فى المنطقة ولو على حساب حكوماتها وشعوبها.
هذه الحقيقة بلورها وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن، فى كلمته أمام لجنة الشئون العامة للعلاقات الإسرائيلية الأمريكية المعروفة بمنظمة "إيباك" الاثنين 5 يونيو الجاري؛ بتأكيده على ضرورة تطبيع العلاقات بين دولة الكيان والمملكة العربية السعودية والعمل على إدماج إسرائيل مع شعوب المنطقة؛ مشددًا على أن التطبيع الإسرائيلى السعودى يحقق جزءا من الأمن القومى الأمريكى.
عميد الدبلوماسية الأمريكية أسهب فى تأكيده على رسوخ العلاقة الأمريكية الإسرائيلية والتزام بلاده بأمن الأخيرة التزامًا صارمًا، مشيرًا إلى أن كل الخيارات مطروحة فى التعامل مع إيران إن هى رفضت الحلول الدبلوماسية لمعالجة الملف النووى.
وعقب حديثه المطول عن قضية إدماج إسرائيل والتطبيع معها، أشار سريعًا إلى أن التطبيع مع المملكة السعودية لا يعنى إغفال قضية السلام، مطالبًا حليفة بلاده بالعمل ضمن مسار يفضى فى نهاية الأمر إلى حل الدولتين.
إشارة بلينكن السريعة والسطحية للقضية الفلسطينية ليست إلا انعكاسًا لأسلوب ومنهج الإدارات الأمريكية المتعاقبة فى التعامل مع الصراع العربى الإسرائيلى؛ فلا ضغوط حقيقية تمارسها واشنطن على دولة الكيان لبلورة المسار التفاوضى وتمهيد السبل أمام عملية سلام حقيقية، عبر مطالبتها بوقف التوسع الاستيطانى، وغل يد آلة الحرب الصهيونية وما ترتكبه من جرائم بشعة بحق المدنيين العزل والكف عن سياسات التمييز العنصرى ضد الفلسطينيين.
أمريكا ببساطة تريد تطبيعًا مجانيًا للمحتل الإسرائيلى دون تقديم أية تنازلات على صعيد القضية الفلسطينية، بل إن وقاحة المحتل الصهيوني دفعته لتسجيل اعتراضه على تدشين برنامج نووي سلمي سعودي، مؤكدا على لسان وزير الطاقة "يسرائيل كاتز" أنه ليس مضطرا لتقديم هذا التنازل مقابل التطبيع مع المملكة العربية السعودية؛ وكأن الرياض هي من تسعى للسلام مع الكيان الصهيونى المحتل، أو أنها في انتظار موافقته على تحقيق طموحها في برنامج نووي مدني.
ذات النهج اتبعته واشنطن فى إدارة علاقتها مع دول المنطقة، فطالما استثمرت ورقة إيران للضغط عليها وهو النهج الذى أدى إلى فقدان الثقة فيمن كانت تعتبره دول الشرق الأوسط شريكًا أو حليفًا استراتيجيًا.
المصالح الأمريكية كانت دائمًا الأولى والأخيرة، حيث لم تقدم واشنطن على فعل حقيقى يضمن أمن الإقليم، وحتى إعلان انسحابها من الشرق الأوسط الذى أعقب الانسحاب من أفغانستان جاء دون تنسيق مع الشركاء، ما جعل الجميع يدرك أن الشراكة مع الولايات المتحدة لا تخدم سوى مصالحها منفردة.
العاشر من مارس 2023 سيظل تاريخًا مهمًا للتغيرات الاستراتيجية لخريطة التحالفات فى المنطقة، ففى ذلك اليوم أعلن اتفاق بكين لعودة العلاقات الدبلوماسية بين كل من المملكة السعودية والجمهورية الإيرانية برعاية صينية وجهود عُمانية عراقية وقد أثمر عن إعادة افتتاح السفارة الإيرانية بالرياض الثلاثاء 6 يونيو الجارى.
قبيل الإعلان عن افتتاح السفارة الإيرانية، أعلن قائد القوات البحرية الإيرانية قرب تشكيل تحالف بحرى عسكرى يضم إلى جانب بلاده السعودية والإمارات والبحرين وقطر والعراق وكذلك الهند وباكستان، وذلك لحفظ أمن الخليج العربى وضمان الملاحة فى مياهه.
الإعلان الإيرانى لم تنفه أي من عواصم تلك الدول ورد الفعل الوحيد جاء من مسئول عسكرى بقيادة الأسطول الخامس الأمريكى والذى وصف الإعلان بأنه خارج حدود المنطق والعقل وعبر عن اندهاشه بقوله "كيف يتشكل هذا التحالف بمشاركة إيران المهدد الرئيس لأمن الملاحة البحرية فى الخليج العربى؟".
عودة العلاقات السعودية الإيرانية تضمن تفاهمًا حول تطبيق اتفاقات اقتصادية وأمنية سبق إبرامها بين البلدين ونشوء تحالف عسكرى بحرى لضمان أمن الخليج نتيجة طبيعية فى هذا الإطار خاصة إذا كانت الصين فى خلفية المشهد كضامن رئيس؛ كما أن دول المنطقة تسعى جميعًا إلى شيوع الاستقرار والأمن حتى تتفرغ لما لديها من خطط تنموية محلية وإقليمية.
هذا الأمن والاستقرار لم تعمل على توفيره كل الإدارات الأمريكية السابقة رغم تواجدها المكثف بقواعد عسكرية ثابتة علاوة على الأسطول الخامس.
وظنى أن تشكيل تحالف من هذا النوع سيسبقه تفاهم أشمل لحلحلة كل المسائل الخلافية فى دول الإقليم من اليمن إلى لبنان وسوريا والعراق.
مجمل هذه التوافقات والتفاهمات تمر بعملية معقدة من شأنها خلق آليات إقليمية لحل المشكلات البينية بين القوى الرئيسية دون حاجة لتدخل أطراف خارجية أو قوى عالمية تأتى فقط لفرض أجنداتها وتحقيق مصالحها باللعب على التناقضات بين دول الإقليم وإزكاء الصراعات وجعل المنطقة تعيش طوال الوقت على صفيح ساخن.
وبنظرة أشمل إلى حلحلة الكثير من المشكلات بين القوى الإقليمية الرئيسية على سبيل المثال تركيا والسعودية، حيث يتجه البلدان نحو تطبيع كامل من العلاقات، بالإضافة إلى عودة سوريا إلى الجامعة العربية؛ كل ذلك يخفض منسوب النفوذ الأمريكى فى المنطقة ويجعل سياساتها وأجنداتها أقل فاعلية ما يعطى للإقليم قدرة حقيقية للضغط على دولة الكيان الصهيونى فقط لاحترام مبادئ الشرعية الدولية.
التطبيع بين القوى الإقليمية الأربع الرئيسية مصر والسعودية وإيران وتركيا على أرضية المصالح المشتركة وعدم التدخل فى الشئون الداخلية ودعم ركائز الدولة الوطنية هو الحل لإنهاء الصراع العربى الإسرائيلى، ارتكازًا على مبدأ الأرض مقابل السلام وحتى يكون التطبيع بثمن يدفعه الصهاينة وتقبله الشعوب على مضض.