فى مجلة «لا تريبون ليبر» الصادرة عن المركز الفرنسى لأبحاث الاستخبارات CF٢R كتب بيير إيمانويل ثومان أستاذ فى الجغرافيا السياسية بحثا بعنوان: «تخريب خط أنابيب نورد ستريم: صراع ضد روسيا وأوروبا لصالح واشنطن ومبادرة البحار الثلاثة.. هذه بالفعل مبادرة تستحق تسليط الضوء عليها لذكائها ومصالحها الجيوسياسية فى ضوء الحرب فى أوكرانيا.
تضم «مبادرة البحار الثلاثة» ITM ما لا يقل عن ١٢ دولة من دول وسط وشرق أوروبا الواقعة ما بين بحر البلطيق والبحر الأسود والبحر الأدرياتيكى، وهى: بولندا والمجر والجمهورية التشيكية وسلوفاكيا، رومانيا وبلغاريا وليتوانيا وإستونيا ولاتفيا وكرواتيا وسلوفينيا وأخيرا النمسا.
ما هو الهدف من هذه المبادرة؟ تهدف المبادرة إلى تقوية الاتصال داخل هذه المنطقة الجغرافية من خلال تطوير البنية التحتية للطرق والسكك الحديدية والطرق المائية والبنية التحتية للطاقة مثل خطوط أنابيب الغاز وشبكات الكهرباء والبنية التحتية الرقمية.
يذكر بيير إيمانويل ثومان: «أن هذه المبادرة تهدف إلى تطوير البنية التحتية للطاقة والاتصالات على طول محور الشمال والجنوب لأن البنى التحتية الحالية موجهة فى اتجاه الشرق والغرب القادمة من روسيا».
إن هذه البنى التحتية الموروثة عبر التاريخ تعتبر من أهم عوامل التبعية الجيوسياسية لموسكو مع تأكيد الهيمنة الاقتصادية لألمانيا منذ توسيع الاتحاد الأوروبى ليشمل دول وسط وشرق أوروبا.
أعلنت بولندا وكرواتيا إطلاق مبادرة البحار الثلاثة فى عام ٢٠١٦ وقد أخذت الطابع الرسمى أثناء القمة الأولى فى دوبروفنيك فى ٢٥ و٢٦ أغسطس ٢٠١٦، والقمة الثانية فى وارسو فى ٦ و٧ يوليو ٢٠١٧، وقد جذب هذا المشروع انتباه أعضاء آخرين فى الاتحاد الأوروبى نظرا لوجود دونالد ترامب.
مبادرة البحار الثلاثة مشروع يتناسب مع الأولويات الجيوسياسية للولايات المتحدة
علاوة على ذلك، بالنسبة لواشنطن يتوافق هذا المشروع تماما مع إيماءاتها الاستراتيجية التى تقوم بتنفيذها فى أوراسيا لتطويق روسيا والصين ومع أيضا طموحها الواضح بأن تصبح مصدرا رئيسيا للغاز الصخرى. إن تخريب خطوط أنابيب الغاز نورد ستريم هو جزء من الاستراتيجية التى تتبناها الولايات المتحدة.
بمجرد انفجار خطوط أنابيب الغاز فى سبتمبر ٢٠٢٢ ألقى خبراء فى خدمة المعسكر الأطلسى المسئولية على روسيا فى هذا الحادث بينما أتهمت روسيا واشنطن بأنها المدبر الرئيسى لها. وقد أكد الصحفى الاستقصائى الأمريكى سيمور هيرش مسئولية واشنطن عن تخريب خط أنابيب الغاز نورد ستريم.
وفى الحقيقة يعتبر الهدف الأول لواشنطن هو السيطرة على أوراسيا، وهذا الهاجس القديم لدى واشنطن يتأكد اليوم بوضوح من أجل الحفاظ على قيادتها للعالم والحيلولة دون ظهور عالم متعدد الأقطاب.
ويذكر بيير إيمانويل ثومان أن واشنطن تعمل على مواجهة روسيا وتوسيع منطقة ريملاند وفقا لعقيدة سبايكمان الجيوسياسية، وتفتيت أوراسيا وفقا لعقيدة ماكيندر وفصل أوكرانيا عن روسيا «عقيدة بريجنسكى».
فى الواقع، أصبحت الهيمنة المطلقة لواشنطن ممكنة أيضا نظرا لعدم قدرة الفرنسيين والألمان على الاتفاق على هيكل أمنى أوروبى قادر على منح المزيد من الاستقلال للاتحاد الأوروبى فى مواجهة الولايات المتحدة كما هو الحال فى قضايا الطاقة التى هى محل نزاع دائم بينهما.
لا شك أن قرار ألمانيا بالتخلص التدريجى من الطاقة النووية والاعتماد بشكل كبير على استيراد الغاز الروسى، دون التشاور مع فرنسا، هو ما يفسرعدم رد فعل باريس على التخريب الأمريكى.
ويذكر بيير إيمانويل ثومان أن التنافس الجيوسياسى الفرنسى الألمانى هو نقطة ضعف المشروع الأوروبى الذى طالما استغله الأمريكيون لتطويقه وتوجيهه لصالحهم. ولذلك جاء تخريب الولايات المتحدة لخط أنابيب نورد ستريم جزءا من استراتيجيتها الجيوسياسية لتجزئة القارة العجوز لنسف أى اتفاق أوروبى عبر أوروبا وآسيا وخاصة محور باريس وبرلين وموسكو.
ومن هنا نجد أن واشنطن عازمة على مواصلة تطويقها لأوراسيا لمواجهة روسيا والصين من أجل الحفاظ على تفوقها فى أوروبا والعالم. وتأتى مبادرة البحار الثلاثة كواحدة من أدوات هذه الاستراتيجية.
وفى الحقيقة، يعد تخريب خط أنابيب الغاز نورد ستريم عملا موجها ضد روسيا وضد ألمانيا وفرنسا أيضا للتأثير على سيادتهم، إنه عمل معادٍ لفكرة مشروع أوروبى مستقل بما فى ذلك روسيا فهو تحجيم لـ«أوروبا الأوروبية» حسب رأى ديجول لصالح «أوروبا الأمريكية».
معلومات عن الكاتب:
أوليفييه دوزون.. مستشار قانونى للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والبنك الدولى. من أهم مؤلفاته: «القرصنة البحرية اليوم»، و«ماذا لو كانت أوراسيا تمثل الحدود الجديدة؟» و«الهند تواجه مصيرها».. يتناول فى مقاله، مبادرة البحار الثلاثة، التى تضم 12 دولة من دول وسط وشرق أوروبا.