قال البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، نحتفل في هذا الصباح المبارك بعيد دخول السيد المسيح إلى أرض مصر، وهو عيد مصري وعيد كنسي وعيد مسيحي وننفرد به هنا على أرض مصر، وأيضا نتمتع بجوار النيل، وهذا العيد هو عيد من الأعياد السيدية التي تخص السيد المسيح وهو عيد ثابتالتاريخ يوم 24 بشنس / أول يونيو من كل عام.
وتابع هذا العيد يخص الكنيسة المصرية ويخص بلدنا مصر وأعطى امتياز خاص لمصر أن يأتي السيد المسيح ويسكن فيها مع أمنا العذراء مريم والقديس يوسف النجار – حارس سر التجسد، وبهذه الصورة هو عيد له معناه وله مغزاه وله تاريخه وله فكره وأثره في حياتنا المصرية.
وأوضح : العيد الذي نحتفل به اليوم، عيد دخول السيد المسيح أرض مصر، والذي أصبحنا الآن نحتفل به أيضا على مستوى العالم في كنائسنا الكثيرة المنتشرة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ونطلق عليه “اليوم القبطي العالمي” فما أجمل أن يكون هذا اليوم هو اليوم الذي دخل فيه السيد المسيح إلى مصر وتجول فيها في مواضع كثيرة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ويأتي اليوم فنسميه اليوم القبطي العالمي لتحتفل كل كنائسنا في العالم به.. ونحتفل به لأن لهخصوصية خاصة في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
واستكمل، ودائما نتساءل لماذا جاء المسيح إلى مصر، حيث أنه ولد في فلسطين وكان ممكن أن يكبر في فلسطين ويصنع المعجزات ويقدم التعاليم كلها في فلسطين، فما أهمية قدومه إلى مصر.. حتى موضوع هيرودس وصدور قرار بقتل كل الأطفال دون سنتين، كان ممكن أن السيد المسيح يعطي هيرودس درساً بأن لا يراه أو أن هيرودس ينهزم أو ينكسر بأي صورة من الصور.. ولكن الإجابة على سؤال لماذا جاء إلى مصر؟ لدينا 3 إجابات مهمة جداً..
أولا إن السيد المسيح أتى إلى مصر لكي ينهي عبادة الأوثان، فكانت الأوثان وعبادتها منتشرة في أرض مصر من أيام العصور الفرعونية وحياة الإنسان والبشر بدأت فيها أيضا العبادات الوثنية في كل العالم أيضا.. ناس بتعبد البحر وآخرون يعبدون الجبل أو الشمس أو المياه أو تماثيل وأصنام، إلى أخره.. فكانت هذه العبادات التي تعبر عما في داخل الإنسان أنه يبحث عن إله قوي.. وتعددت الآلهة حتى أن نهر النيل كان أحد المعبودات وكان يسمىالإله حابي. جاء المسيح لينهي هذه العبادة ويستأصلها وينهيها من مصر من كل العالم لأن العالم ارتقى بعد ماكان يعبد الوثنيات بكل أنواعها يبدأ يتجه إلى الإله الحي. ولذلك كل ما نقرأ على قصة الهروب إلى مصر نرى أن كلمدينة كانت العائلة المقدسة تدخلها يسجل لنا التاريخ أن الأوثان كانت تنكفئ على وجهها وتنكسر، وفي بعض المواضع الأثرية مثل تل بسطا وغيرها نجد الأوثان ساقطة حتى اليوم كما هي. ومن هنا كانت نهاية الوثنية في حياة البشر.
ثانياً جاء السيد المسيح إلى مصر لكي يبارك أرضنا، ويبارك بلدنا وترابها ومياهها، ومن هنا نشأت فكرة الأواشي،فنقول: أذكر يا رب مياه النهر باركها.. ثم عندما امتدت الكنائس في أماكن كثيرة نذكر يا يبارك الرب مياه الأنهار والأمطار والينابيع إلى أخر مصادر المياه المتعددة.
جاء السيد المسيح ليبارك مصر ويعطيها بركة خاصة، البركة أيها الأحباء لا نراها بأعيننا ولكن البركة نشعر بها في حياتنا.. مثل المياه عندما نسخنها، نجد الحرارة تدخل فيها لكننا لا نرى الحرارة.. لذا نحن نشعر في مصر أن هناك بركة خاصة والذي يقرأ التاريخ ويعرف الجغرافيا ويدرس التراث يعرف أن تاريخ مصر العظيم بدأ من العصور الفرعونية امتدادا للعصور ما بعد ميلاد السيد المسيح امتلأت ببركة كثيرة جدا.. ورغم المحن والضيقات التي حدثت على مدار التاريخ في أوقات متعددة حتى كنا نعتقد وقتها أن هذه نهاية العالم لكن نفاجأ أن الضيقة تزول وتنتهي ومصر تبعث من جديد وتظهر فيها البركة.. بركة في طبيعتها ومياهها وهواؤها حتى بركة في الشكل الجغرافي.. أنتم تعلمون أن مصر تقريبا هي البلد الوحيد في العالم مربعة الشكل – ألف كيلو في ألف كيلو بمساحة مليون كيلو متر مربع، ونجد أنها تطل على مياه البحار من ناحيتين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وقناة السويس، ومن الجانبين الأخرين على الصحراء، لوحة رسمها الله..
ويقولون على مصر أنها فلتة الطبيعة، فهذه البلاد لها سمات خاصة كما يتضح في كتاب جمال حمدان “شخصية مصر” الذي يتكلم عن عظمة مصر – سواء من البشر أو الحجر أو الشجر..
جاء السيد المسيح ليبارك وتجد هذه اللوحة الجميلة التي رسمها الله وسطها نهر النيل، وهو في التاريخ وعلى مر العصور مجرى واحد يمشي في وسط أرض مصر حتى حدود القاهرة ثم ينقسم إلى فرعين – فرع رشيد وفرع دمياط– وعندما تنظر إلى الخريطة المصرية الحالية تجد أن نهر النيل يمثل إنساناً يرفع يديه ويصلي فكأننا نأخذ روح العبادة من خلال النهر والطبيعة.. كلنا نعرف أهمية المياه لحياتنا ومن خلال سر المعمودية المقدس وكان قديما يعمدون الأطفال في النهر مباشرة بدون جرن معمودية، فجاء السيد المسيح لكي يبارك مصر..
ورغم أن الكنيسة القبطية تنتشر في العالم مع حالة السفر والهجرة لأسباب متعددة إلا أن مصر تحتل القلب في جسم الكنيسة القبطية المنتشرة ولا يستطيع إنسان أن يستغنى عن قلبه، فالقلب هو الذي يمد الحياة لكل الأعضاء..
حتى لو بحثنا في الأمثال المصرية تجدها تتكلم كثيرا عن البركة مثلا: ماذا نريد من الدنيا غير الصحة والستر ومثل آخر يقول: محدش بيبات جعان.. كلها تحكي عن بركة الله الذي لا يتركنا ويبارك ويستر ويشبع.. البركة في حياة المصريين، في حياة الأرض والوطن والتاريخ، في الحياة السياسية التي نحياها، في الأزمات الاقتصادية..
ثالثاً السيد المسيح جاء إلى مصر ليعلمنا أحد المبادئ الروحية القوية في حياة الإنسان في أي زمان وهذا مبدأ هو مبدأ الهروب.. إهرب لحياتك.. يتعرض الإنسان لخطايا كثيرة وضعفات عديدة وأحيانا يقف أمام الضعف ويسلم نفسه ويسقط وتكون النتيجة مؤلمة.. لذلك التاريخ يحكي أن هيرودس قتل الأطفال وتخيلوا معي مدينة بها أطفال صغار كل طفل عمره سنتين يقتلوه.. تخيلوا معي المناحة التي كانت موجودة.. راحيل تبكي ولا تريد أن تتعزى.. ولذلك لدينا عيد نحتفل به إسمه يوم تذكار شهداء بيت لحم.. مدى الألم الشديد الذي كان موجود وقتها.. ولكن ماذا فعل السيد المسيح أمام شر هيرودس؟ السيد المسيح ابتعد وهرب من شر هيرودس وخطيته.. ولذلك أحد مبادئ السلامة الروحية في حياتنا هو مبدأ البعد.. حتى في النسكيات الرهبانية يقول لنا “حب الكل وأبعد عن الكل”.. فاهرب لحياتك، هي أحد المبادئ التي تحمي الإنسان أنه يجرب أو يسقط أو أحاول.. مبدأ روحي أصيل في التربية الروحية في حياتنا أن الإنسان عندما يرى الشر يتوارى ويهرب ويبعد ويتجنبه لألا يدخل في تجربة.. نحن نصلي قائلين لا تدخلنا في تجربة فلا تذهب لها برجلك وبايدك، لتكون النتيجة سيئة.
وتابع : ولذلك ونحن نحتفل بعيد دخول السيد المسيح إلى أرض مصر، لا نحتفل به فقط على المستوى التاريخي أو الكنسي، بل نحتفل به لنفوسنا ولحياتنا ونستفيد منه ونعيش بالمبدأ الروحي الذي علمنا إياه “مبدأ الهروب لحياتك” اهرب من الخطية إهرب من الأفكار الشريرة إهرب من المحبة الضارة إهرب من محبة المال إهرب من الطمع أهرب من مسكتك للتراب وناسي السماء إهرب من الأشياء التي تشدك للأرض وتنسيك مكانك ونصيبك في السماء..
كثيرا بعد التعرض لأي ضيقة أو أزمة أو تعب أو خطية نفكر أين كانت عقولنا وقتها، وأين كنت ولماذا سلكت هذا الطريق؟ لذلك إنتبه.. الأباء يعلمونا أن دائما الغفلة تسقط في الخطية.. وتكون النتيجة السقوط..
في حياتنا اليومية أصبح لدينا هوس بالتليفون المحمول ودائما في إيدينا باستمرار حتى أن الكثيرين يضطربون إذا اختفى بعض الوقت، لا تدع شئ يمسكك في الأرض ولا تدمن ما ليس له قيمة في السماء، سوف تعيش على الأرض طويلاً والله يعطيك العمر وتتمتع بالصحة الجيدة لكن سيأتي يوم سوف تترك الأرض وإلى أين تذهب؟؟
فمن الباب الأنسب أنك تمهد لنفسك أن تهرب من كل شر ومن كل خطية..
وفي هذا اليوم المبارك نتذكر دخول السيد المسيح أرض مصر وليس بعيدأ أبدا أن العائلة المقدسة في هذا المكان أمام النيل نزلوا من نفس المكان الذي نقف فيه الأن وركبوا المركب من هنا وتحركوا في النيل من هذه النقطة وسارت نقاط مقدسة ومباركة في كل أرض مصر.. ليباركنا مسيحنا بكل بركة روحية ويعطينا على الدوام أن نعيش بركة هذا العيد الذي أعطاه لنا نحن المصريين وأعطانا هذه المناسبة الجميلة التي نحتفل بها كل عام..
واختتم : دائما نتكلم عن مصر مرتين في السنة، المرة الأولى في شهر يناير مع ميلاد السيد المسيح، والمرة الثانية هنا في الأول من يونيو في تذكار دخول المسيح إلى أرض مصر، فكأننا نتعلم الانتماء الوطني داخل كنائسنا من خلال الحديث عن مصر باستمرار.. ولذلك وجودنا الكنسي يعلمنا الانتماء الوطني والانتماء لأرضنا ومحبتنا لأرضنا وتاريخنا.