السبت 02 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

باسم سليمان.. أعاد خلق الحروف من جديد فى ديوانه "رأسي البسط وجسدي المقام.. أنا كسر بين الأرقام"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فى إحدى كتاباته عن قصيدة النثر، قال الشاعر الكبير أدونيس: "هناك محاولات نثرية تنم عن موهبة حقيقية ولكن هذه المحاولات النثرية لم تخلق نظامها بعد، كنتُ أول من شجع قصيدة النثر وأول من كتب عنها لكن حتى الآن ما نسميه بقصيدة النثر لا تزال مضطربة وعائمة ولا هوية لها". كان هذا الحوار قبل أن ينتقى من بين المعروض عليه أربعة دواوين شعرية لينشرها من خلال مشروع "تحولات" الذى دشنه بالتعاون مع الكاتب الصحفى عبدالرحيم علي، رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس، وكأنه أراد أن يقول: "هناك جيل من الشباب يفجر ينابيع أخرى للشعر غير تلك التى تدفقت، قفزوا بالحرف إلى جنان أخرى، تعريف ما يسطرون تخطى مسمى ما يقال عنه قصيدة النثر، جيل خلق مفردات خاصة به أعاد معها تذوق الشعر وساهم فى عودتها للمنافسة بعدما قيل أن هذا عصر الرواية. 

لدى قراءتى الأولى لديوان "رأسى البسط، جسدى المقام، أنا كسر بين الأرقام".. للشاعر السورى باسم سليمان، أدركت أننى أمام حالة متفردة، أخذنى عنوان الديوان لبحر من الخيالات لا تنتهي، فالعنوان يفتح الشهية للعقل أن يأكل لحكم الطريق الشهى من الصفر "اللاشئ" وصولًا إلى الواحد الصحيح!

"رأسى البسط، جسدى المقام، أنا كسر بين الأرقام".. عنوان مختلف لوصف جديد لى كإنسان كان يرى نفسه رقما صحيحا فى حسبة الأيام!

أى كسر إذن أنا وأى كسر هو؟.. أى انتقاص يتعين على أن أجده حتى أعادل رقما صحيحا؟ وأى خطوات كانت فى جعبتى حتى صرت على ما أنا عليه الآن؟.

شمرت عن ساعدى وأنا أتحسس حروف "باسم" ذلك الصديق الذى حدثته عن بعد برغم أنه شرح حالاتى وحالتنا كجراح ماهر كشف عن مواطن الداء بلغة لم يسبقه لها أحد وكأنه أعاد خلق الحروف من جديد.

افتتح "باسم" ديوانه بتعريف مغاير للقمر لم نعهده عكس رؤيته للأشياء حوله إذ كتب:

ما القمر إلا قطعة نقد

سقطت من مال الله

أرميه مقامرًا

أهو حضور أم غياب

فيأتى نقشه وجهك!

عهد صديقنا إلى ذكر تواريخ قصائده أسفل كل مقطوعة شعرية يعزفها متفردًا وكأنه يدون لأمر ما بعث فى نفسه هذا الخيال، ما دفعنى لتفنيد صفحته الخاصة أفتش فى صوره ومنشوراته علنى أعيش معه ولادة كل كلمة، اتكأت معه على ظله وهو يرقب الماء يجرى إلى غيمة، فى غبش الأفق لا أنكر أننى تهت منه حتى أخبرنى أنه لا يجتمع طيفان، حينما سألته عن منهجه فى التفكير، قال لي:

إننى لا أفكر، بل أنظر

وبين الفكر والنظر

مسافة من قمر

لا أنكر أننى وقعت فى عشق "باسم" رغم أننى لم أره إلا على الصفحات ومن بين أبياته حاولت إيجاد تعريف له، وكلما اقتربت ابتعدت، فلا تعريف ثابت يمكن حصره:

فى غيابك

أنا رغيف يابس يتكسر ما إن يمسه النظر

لا يصلح لسندوتشات الذاكرة

أنا سلمك

فلا تحمليني

بالعرض أو الطول

بل

احضنيني

كإطفائى ينقذ النار

من الماء

أنا الموت الهارب إلى حبل غسيلك، سأطعم

الغسالة بنطال الجينز، حيث استقرت يدك

بخفة رغم صعوبة الحرف والتقاط الصورة، وضع الجسد على طاولة التشريح الشعرية، بداية من قصيدته الأولى حتى سال من الجسد العارى أمام مرآة الحقيقة المداد كنزيف.. تحسست الكلمات وندبات الجسد التى خلفها فى حتى وصلت إلى قصيدته الأخيرة التى اختار عنوانها عنوانًا لديوانه:

لديّ فتقٌ

فى منتصف وأسفل يمين بطني

كأنّه نصيحةٌ

كى تصيبَ الهدف برصاصة

يقول الطبيب: تحتاج إلى شبكة

كى نرتق الفتق.

لكن ليس فى بطنى سمكٌ

يصلح لمعجزة.

عندما خدّرت

نمتُ بلا أحلامٍ أو كوابيسْ

واستفقتُ على رتقٍ محجوب بقطب

خيوطها جُدلت من أمعاء خروف

حديث الولادة

وتساءلت أهو هدم لمعتقد سائد بتقديس الجسد؟ أم لحظة مواجهة بين روح أعاقها هذا الجسد عن التحليق، فأرادت الخلاص بتعظيم تكوينه وتسفيهه فى آن واحد، باستباق تشييعه لتصبح الروح حرة غير مقيدة الأوابد.

أكانت تلك الروح لجسد آخر تستطيع التماهى فيه فتشكله حيث شاءت؟ ثمة اغتصاب حدث فأجبر النقيضين على التعايش رغمًا عن التنافر، قلت ذلك قبل أن أصل إلى وصفه الذى أكد حدسى هذا:

أفكّر أن أهدى روحى جسدًا آخر

ولربما أعطى جسدى روحًا آخر

أحيانًا أشعر أنّ روحى يحتلّ جسمي

أو أنّ جسمى اغتصب روحى العابر.

أى حيرة هذه التى تصبح رغمًا عنا حياة نتحسسها بأطيط نعالنا حتى نمر وتمر دون قصد ولا سبيل؟، فقط مرغمين أن نمضى ننتظر حلًا من السماء للخلاص مما وضعتنا فيه الأقدار.

لجسدى ظلّ فى النهار

ولروحى شبح فى الليل

يا الله اكسف الشمس

واخسف القمر

حتى أجد يقينى.

بين كسر الأرقام ومن على صفحات الديوان لملمت دمعى المسكوب بين شجن وحب، وكتبت تلك الكلمات إلى صديقى البعيد القريب "ربما تلاقينا من قبل أو كنت أنا الذى لم أستطع أن أكتبه".

 

إِذا جارَيتَ فى خُلُقٍ دَنيئًا 

فَأَنتَ وَمَن تُجاريهِ سَواءُ

رَأَيتُ الحُرَّ يَجتَنِبُ المَخازي

وَيَحميهِ عَنِ الغَدرِ الوَفاءُ

وَما مِن شِدَّةٍ إِلّا سَيَأتى 

لَها مِن بَعدِ شِدَّتِها رَخاءُ

لَقَد جَرَّبتُ هَذا الدَهرَ حَتّى 

أَفادَتنى التَجارِبُ وَالعَناءُ

أبو تمام

 

باسم سليمان يكتب: هاتف أدونيس 

 

الشاعر السوري باسم سليمان

عندما جاءنى الهاتف من أدونيس، قلت فى نفسي، ها هو كبير واد عبقر! تخيّلت لحظتها ما قاله التراث عن زهير بن أبى سلمى وابنه كعب: (تحرك كعب وهو يتكلّم الشعر)، فكان زهير ينهاه مخافة أن يكون لم يستحكم فى شعره. وعندما لم يتوقّف كعب عن ذلك، أردفه زهير خلفه على الناقة وبدأ فى امتحانه فى أوصاف الناقة والنعامة على عادة شعراء الجاهلية، يقول زهير البيت وعلى كعب أن يجاريه. قال زهير: وإنّى لتعدينى على الهم جسرة/ تخب بواصل صروم وتعتق. وبعد قوله ذلك صرخ بابنه: أجز يا لكع، فقال كعب: كبنيانة القرنى موضع رحلها/ وآثار نشعيها من الدّف أبلق. وظلّ يمتحنه حتى أجاز له قول الشعر مطلقًا) وزعمت بأن أدونيس، سيقول لي: أجز يا لكع!

فى بداية الثمانينيات، شعر أبى مدرس الفلسفة بأنّ (الكلمة) خائنة، فصبّ جام غضبه الكسيح على مكتبته، فتركها نهبًا ليد طفل ممسوس بالإبحار والطيران، وأذكر تمامًا اسم أدونيس على غلاف أحد الكتب لم أعد أتذكّر عنوانه، لكن ما زلت أشعر بيدى تمزّق الصفحات لأصنع منها طيارات ورقية وقوارب وطواحين هواء وقد ذكرت شيئًا من ذلك فى روايتي: (جريمة فى مسرح القباني). ودارت الأيام لأعيد شراء الكتب التى مزّقتها وخاصة كتب أدونيس. 

قال عنترة يومًا: "هل غادر الشعراء من متردم!" ضجرًا من الشعراء الأقدمين الذين سبقوه فى قول كل شيء وهذا المقول ينطبق على شعر أدونيس أيضًا، فهل تركَ أدونيس شيئًا لنا لنقوله؟ لكن أدونيس قال: "عش ألقًا، ابتكر قصيدة وامض، زد سعة الأرض". إنّها دعوة لكل شاعر أن يبتكر أرضه والأحرى جسده/ قصيدته، فبالجسد تعاش التجربة الوجودية، ولا يوجد جسد يشبه آخر ومن هنا تزداد سعة الأرض، ويصبح قول عنترة نافلًا. هذه الزاوية المستقيمة، هى مدار الحديث الذى جرى بينى وبين أدونيس، فعندما طلب منّى أن أختار القصائد من مجموع دواوينى بسبب أن آخر ديوان لي: (خالٍ كصفر تهبّ فيه ريح الأعداد) كان قد صدر عن سلسلة الإبداع فى مصر، وليس من إنتاج جديد لى حاليًّا، تصوّرت أن أدونيس من سيختار ويحكم، لكنّه أومأ لى على لسان زهير: أجز يا ناقد!

إذن، أدونيس لم يملِ عليّ، بل كان حريصًا على أن أستخرج أرضي/ قصيدتى الذاتية من العمق، وكأنّ أدونيس يؤكّد على رفض الأبوة الثقافية، التى ألبست له عنوة، وسلّمنا بها اِتباعًا. ولذلك سألته مستدركًا: يقول مارتن هيدغر: "المفكّر الكبير يجب أن يرتكب أخطاء كبيرة" ويذكر نيكوس كازانتزاكى في: (تقرير إلى غريكو) عن شاب رفض طلب انتسابه لأحد الأديرة فى سيناء لأنّه كان بلا أخطاء، فطريق القداسة وفق كازانتزاكى يجب أن يكون مليئًا بالمعاصي، فما هى أخطاء أدونيس؟ يجيب أدونيس: "صحيح! وهى لا للمحو بل للتأمل! وما أكثر أخطاء أدونيس وما أكبرها!" 

كشفت لى تجربة انتقاء قصائد الديوان: (رأسى البسط، جسدى المقام، أنا كسر بين الأرقام) سوء فهم نحو أبي، لم أستطع أن أجد له جوابًا، بأنّه كيف سمح لى أن أدمّر المكتبة! والآن وأنا أختار من مجموع دواوينى القصائد التى سيتضمّنها الديوان الذى سيصدر عن سلسلة تحوّلات برعاية أدونيس، حلّت عقدة سوء الفهم تلك!

أظن بأنّ سلسلة تحولات أشبه بالمنارة، وكثيرًا ما يصنع نورها الوامض البحر والبحارة والميناء والسفن والنوارس والأمواج والشطآن. 


الشاعر السورى باسم سليمان فى سطور

 

حاصل على إجازة جامعية فى الحقوق من جامعة دمشق، ويكتب مقالات نقدية وإبداعية فى العديد من المجلات والصحف والجرائد السورية والعربية. يقوم بتغطية النشاطات الفنية والأدبية فى عدد من الصحف العربية.
صدر له العديد من المطبوعات الإبداعية، من بينها دواوين "تشكيل أول" عام 2007، "لم أمسس" عام 2011، "مخلب الفراشة" 2015، "الببغاء مهرج الغابة" 2016، "خال كصفر تهب فيه ريح الأعداد" 2022.
وفى مجال الرواية، صدرت له روايتان، هما "نوكيا" عام 2014، و"جريمة فى مسرح القباني/ الحد والشبهة" عام 2020.
وفى القصة، صدر له "تمامًا قبلة" عام 2009.كما صدر له كتاب بعنوان "الحب عزاؤنا الأخير"،عام 2022، ويتضمن سلسلة مقالات.