الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

د. يسري عبدالله يكتب : يوسف الخضر.. «بورتريه».. ذات مؤرقة تعاين العالم جماليات النص.. شعرية الصورة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كان الشاعر والناقد الألمانى هللدرلن يعلن فى صيحة شهيرة (ويبقى ما حققه الشعراء)، كان الشاعر حينها مشغولًا بفكرة البقاء، وهى فكرة تقارب فى المدونة الشعرية العربية سعى الشعراء إلى ما يصفه البعض وبالخلود الشعري، كانت تلك التصورات ابنة زمنها، وفى الآن وهنا، وفى عالم من السيولة اللانهائية تعددت الذوات المتشظية فى النص الشعري، بدت تبحث عن خلاصها عبر القصيدة، وهكذا افتتح الشاعر السورى الشاب يوسف الخضر ديوانه الجديد (بورتريه)، والصادر عن (المركز العربى للصحافة) وفق مشروع (تحولات) الواعد الذى يشرف عليه الشاعر والمفكر أدونيس، ويدعمه الكاتب والباحث الدكتور عبدالرحيم على. 
يصدر الشاعر ديوانه بعبارة قصيرة مفادها (الكتابة هى ما ترمم واقعى الهش، لمنحه بعض المصداقية، وجعله أكثر صلابة). 
من أى شيء يولد الشعر، من جدل الذات والعالم، أم من معاينة تبدلات الروح وتمزقها، أم من الإحساس بثقل الحياة ووطأتها، أم من المراوحة بين تهميش الفرد وارتضائه بعزلته بديلا عن العالم، أم أنه الانفتاح على كافة الموجودات ومقاربتها من منظورات مغايرة. ليس ثمة إجابة واحدة، ولا معنى نهائي، وحين تتأمل التجربة الشعرية الجديدة (بورتريه) تجدها موزعة بين (تمزق) فى الاستهلال الشعري، و(شذرات) فى الختام، وبينهما تنويعات متعددة تعاين من خلالها الذات الشاعرة عالما مسكونا بالقتل، والحرب، والاغتراب.
لم يكن العنوان الدال للمجموعة الشعرية (بورتريه) محض تعبير فنى عن إحدى قصائدها التى حملت العنوان ذاته، لكنه بدا مجلى رؤيويا وجماليا عن مجمل الدلالة الكلية للديوان، حيث يتجاوز مفهوم البورتريه ما حوته القصيدة المشار إليها، ليصبح معاينة لذات مهترئة فى قلب الجحيم الأرضي:
"كم أنتَ نحيف!" 
لطالما سمعتُ هذه الجملة؛
فابتسمتُ لقائلها غير عارفٍ كيف أشرح له؛
حتى هذا القليل المتبقى مني،
لا أكادُ أتحمَّل وجوده./
أنظر إلى حياتى كشيء رقيق؛
سقط من يدى ولم أستطع التقاطه./
أحمل قلبًا هشًّا 
إذا انتَزعتُه وعلَّقته على صدر فزاعة الحقل
لن تخشاها العصافير بعد ذلك./
أحسد ظلى وانعكاس وجهى فى المرآة،
فقد عاشا حياتى ذاتها
ولكن بلا مشقة، بلا لحظة واحدة من الألم..
ثمة دوال مركزية فى القصيدة السابقة والديوان معا، من قبيل المشقة، والألم، مثلما تتواتر مفردات أخرى فى الديوان مثل (خردة /، شيء / وحدتي/...) لتشير إلى إحساس عارم بالتشيؤ، وعمق المأساة الفردية، وتكشف عن تلك البنية المهيمنة Dominant Structure على النص، حيث الإنسان الفرد فى مواجهة عالم معبأ بضراوة لا نهائية، يستحيل فيه الألم إلى كائن مقيم، وتصبح البهجة حلما عابرا يتفلت باستمرار.
تمثل عناوين القصائد ما يسمى البنية الدالة، والقادرة على تأدية وظيفة داخل المسار الشعري، وتأخذ العناوين مناحى مختلفة، فقد تصبح مفردة مستقلة بذاتها، متصلة بالمتن الشعري، وكاشفة عن بغيته، من قبيل (مأزق/ سعار / شيء / جرح /يتم / عطش / خسران/ فرح/ حقد / بورتريه/..)، وقد تكون هذه المفردة شخصية مستدعاة من الذات الشاعرة، يتجادل فيها التخيلى مع الواقعى مثل (مايا)، فى قصيدة تصنع مقاربة من الداخل والخارج معا للآخر الأنثوي، وقد يصبح العنوان إضافة نوعية وجمالية لعنوان آخر داخل الديوان، من قبيل (صورة شخصية/ صورة شخصية شاحبة للوحدة / نوستالجيا/ وأشياء أخرى)، أو يصبح العنوان مفتتحا لخطاب وجزءا من بنية النص، من قبيل (إلى الكذب.. إلى النفاق.. إلى الوضاعة)، وهكذا..
فى القصيدة الأولى (مأزق )، ثمة عنوان يبين عن الجوهر، مثل أغلب القصائد هنا، كاشفا عن مقاربة جمالية لحالة تتجاوز البين بين، حاملة نزوعا سيكولوجيا فى التعبير الفنى عن محنة الذات الشاعرة بين العزلة والتماس، وبأداء لغوى مقتصد، يعتمد بنائيا على كثافة الصورة الشعرية، ومجازاتها المنتجة للمعنى: "يخطر ليَ الآنَ
أن أنتزعَ قلبى وأُبرحَه ضربًا.
عالقٌ هنا
لم تُجهِز عليَّ وحدتي
ولم يُنجِنى الاختلاط". 
إن تكنيك الوحدات الشعرية القصيرة يعد أسلوبا بنائيا يعتمده الشاعر فى قصائد عديدة، من بينها أيضا (الزمن)، حيث تنهض على تكنيك المفارقة بالأساس شأن هذا النسق البنائى المتكئ أيضا على رؤية غير العادى فى العادي، والنظر المغاير لسردية الزمن:" الزَّمَنُ
ذلك الشيء المهيب
لا يتدخل فى أى شِجار،
ومع هذا
من كل الشّجارات
يخرج هو المنتصر".
ثمة حضور متواتر لمفهوم الصورة الشعرية الكلية فى الديوان، حيث تتجادل الصورة البيانية مع البصرية فى تشكيل صورة فنية ذات طابع كلي، ويبرز هذا فى نصوص عديدة، من قبيل (صورة فوتوغرافية للحزن) التى تشيع فيها أيضا أفعال الحركة، وتعزز من تيمات التململ، والأسى المصحوب بالفقد:"أقف متَّكئًا على الباب
قبل أن أخرجَ إلى الشارع
أهزُّ رأسى بأسى 
أعرف أننى سأموت وحدي،
مقصيًّا،
لا أملك سوى الدموع
سوى خيبتي،
ومرارة حقدى تجاه هذا العالم.
آه لو تعلمين كم أنا يتيم!
أَقِفُ متَّكِئًا على الباب؛
أُقرِّرُ فجأةً أننى لن أخرجَ
أعاودُ الجلوسَ على الأريكة ذاتها
متعَبًا
إلى درجة أنك تستطيعين صفعى ولن أكترث،
رقيقًا
إلى درجة أنكِ إن تَنفُخى عليَّ أتلاشى.
لا تلوميني
فأنت لا تعلمين
كم بذلتُ من الصراخ فى حياتي؛
حتى وصلت إلى جلستى هذه هادئًا
مطفَأَ الملامح".
تتجادل تيمتا الحياة، والموت، وتبدو الشرور، والتعاسات جزءا من بنية واقع صلد، يحمل معه الخذلان مثلما يحمل الحرب.
وتمثل سردية الحرب مجلى لذلك الوجود الزائف الذى يعابث الوجود الحر الأصيل للفرد؛ ولذا فإن وجودها يتواتر فى مقاطع عديدة، تعبر جميعها عما حل بالإنسان من كارثة.
ثمة رؤية وجودية للعالم، تهيمن على فضاء الديوان، يستحيل فيها العدم إلى مظلة يستوى داخلها كل شيء:"لا يهمُّ إن كان ما بى اكتئابٌ أم شيءٌ آخر.
تأتى السعادة أو لا تأتي؛
فالأمر عندى سِيَّان".
ثمة بنية درامية توظف داخلها آلية السرد الشعري، وتدمجها فى بنية القصيدة، فتتسع مساحات البوح الذاتي، من قبيل (رثاء بارد): "فقدتُ فى وقت مبكرٍ من حياتى أربعة من إخوتي، وهذا رقم عملاق قياسًا على ميزان تحمّل الفقد لدى الإنسان.
لحقهم أبى فجأة، وكنت حتى تلك اللحظة رغم التشوّه الذى حدث بداخلى لا أزال متماسكًا من الخارج، وظلَّ ذلك الثبات الهشّ ناجحا إلى أن شُخِّصَت أمى بسرطان المعدة قبل ثلاثة أسابيع". 
ثمة جدل خلاق بين الأنا والآخر هنا، طرفاه الذات الشاعرة وحبيبة مربكة، لا تدنو إلا لتبتعد، ومن ثم لا يبقى سوى الوحدة، والألم رفيقين مركزيين لذات أنهكها كل شئ. 
يختتم الشاعر نصه بقصيدته (شذرات)، وهى أكثر القصائد طولا على مستوى المساحة الكمية للمتن الشعري، وكان يمكن أن تحذف بعض مقاطعها لمجانيتها، واحتوائها على طابع حكمى بدا مثل سردية جاهزة فى بعض المواضع، وهذه هى الإشكالية الفنية الرئيسية فى الديوان، والتى ينبغى مجاوزتها فى الدواوين التالية. 
هنا.. ثمة شاعر موهوب، وذات مؤرقة بعالمها القاحل، ومقاربة لتبدلات إنسانية حادة، حيث يصبح الأسلوب هنا مجلى لما دشنه ميشيل ريفاتير من كونه آلية ضاغطة للنفاذ إلى سيكولوجية المتلقي، وحيث تصبح المشهدية البصرية، وبلاغة المؤرقين وسائل فنية يتكئ عليها الديوان.
 



رثاء بارد .. إحدى قصائد الديوان

فقدتُ فى وقت مبكرٍ من حياتى أربعة من إخوتي، وهذا رقم عملاق قياسًا على ميزان تحمّل الفقد لدى الإنسان.
لحقهم أبى فجأة، وكنت حتى تلك اللحظة رغم التشوّه الذى حدث بداخلى لا أزال متماسكًا من الخارج، وظلَّ ذلك الثبات الهشّ ناجعًا إلى أن شُخِّصَت أمى بسرطان المعدة قبل ثلاثة أسابيع.
وصلنى تقرير المشفى عبر الواتس آب، صورة غير واضحة، بصعوبة قرأتُ بعض العبارات الطبية المصَاغة بطريقة باردةً قاسيَة.
قرأت بشكل غير دقيق فى أحد بنوده: «مُركَّب كيسى حوالى ٤ × ٣.٥ سم يحوى بؤرًا، يلاصق وينطبع على الجدار الأيمن للوصل المعدى المريئي؛ قد يكون التهابيًّا أو مرتبطًا بالسوابق»
أمى التى شبِعَت من الأسى فى حياتها وجَدت فى نهاية الطريق وحشًا ينتظرها لتصل إليه، فيبدأ بالتهامها بطيئًا قاسيًا وهى على قيد الحياة، ذلك أقسى ما يمكن أن يشاهدَه المرء، أن يُشاهد نفسَه يتآكل ببطء وهو لا يستطيع إلا أن يشاهد الأمر ويعيشه بأدق تفاصيله العنيفة...
(أنا آسف أمي!)
******
لم أتخيَّل يومًا أن نهايتها ستكون بهذه الصورة البشعة!
لقد كنت مخطئًا عندما ظننت أن موت فارس المفاجئ أقسى ما فى الحياة، وأيقنت الآن أنها -أقصد الحياة- عبقرية وخلاقة جدًّا فى هذا الجانب.
******
إنه لأمر رهيب وعظيم، أمي، أن توصينى بنفسى وأنت فى هذه الحالة؟!
ومع هذا لا تقلقي!
تعلمت الكثير عن الاهتمام بالنفس فى غيابك، تعلمتُ أن أكوى ملابسي، وتعلمت أن أطبخ المقلوبة، لا تكون لذيذة غالبًا، لكنّى فى كل الأحوال لا أطبخها لهذا الغرض.
كثيرًا ما طبختها فقط لأنظر إلى شكلها وأشتمُّها
كذلك تعودت ألّا أميط البطانية عنى أثناء نومي، لا أدري! أشعر أن ثقتى هذه الأيام انحدرت كثيرًا عن ذى قبل.
ربما كنت أفعلها فى السابق؛ لأننى واثق أن يدًا ما سوف تعيدها إلى مكانها!
وفيما يخصّ الخمرة، والقنب ومسكنات الألم؛ بتُّ آخذها بجرعات مقنَّنة مدركًا تمامًا حجمَ آثارها الجانبية بعد قراءة الشروح المرفقَة مع الأدوية بتمعُّن، فضلًا عن قراءة مقالاتٍ عن أضرار الكحول والنباتات المخدِّرَة والمسكِّنات، بتُّ أجد نفسى أحيانًا كالطبيب أميِّز الأضرار من المنفعة، وأكون صادقًا فى اقتراح أشياء كهذه على نفسى.
******
أنا بخير، أمى.
بعد عام على الأكثر، بعد موتك، سوف تمضى الحياة على نحوٍ طبيعي، وسيكون تذكُّرُك فى كثيرٍ من المواقف اليومية أمرًا اعتياديًّا أُحبُّه.
أنا بخير، أمى لا تقلقي!
ولكن ما بك أنتِ؟
يبدو وجهك اليوم صامتًا،
خاويًا كالفراغ؟!

 


  يوسف الخضر يكتب: حلم «بورتريه» وحديث أدونيس


قد يبدو الأمر معقدًا أن تشرح ما تقاسيه فى داخلك، تلك الفوضى العارمة وذلك الخوف العميق يصعب الحديث عنهما بكلمات عادية قد تقلل من شأنهما، لكن فى النهاية عليك أن تتكلم. الأمر يشبه إحداث ثقب صغير فى صهريج عملاق، بالطبع لن يفرغ الصهريج من محتواه على الفور، ولكنه فى نهاية المطاف سوف يفرغ، هكذا أكتب، وعندما أكتب وأنشر ما أكتبه فإننى أدفع بشخصى الداخلى إلى العالم.
أريده أن يتعرف على أناس غيرى وأريد لأولئك الناس أن يعرفوه؛ الكتابة هى طريقتى الوحيدة للتخلص من نفسى.
وعليه فإننى أؤمن بشدة بقول ريلكه "لا تكتب الشعر، إلا عندما تشعر أنك ستموت إذا لم تفعل".
وهذه تجربتى الشعرية الثالثة "بورتريه" بكل بساطة: عبارة عن جمل وكلمات كانت ستمزقنى من الداخل لو لم أكتبها. إنها بالطبع ليست محاولتى الأولى لرسم صورتى الداخلية، ولكنها الأكثر توحشا وحدية على الإطلاق.. تجربة شعرية حاولت من خلالها أن أرمم واقعى الهش، أن أمنحه بعض المصداقية، وأجعله أكثر صلابة.
عن الحدث ككل:
قبل عدة أشهر وبينما كنت أكتب خطابا إلى إحدى دور النشر فى لبنان أدعو فيه لجنة الدار للنظر فى مسودة مجموعتى الشعرية "بورتريه"، وقبل أن أضغط على "إرسال" تذكرت أن صديقة لى أعطتنى سابقا رقم هاتف الشاعر والمفكر السورى أدونيس. أذكر أننى حين تلقيت رسالتها التى تحوى رقم هاتفه قلت لها: ماذا عساى أفعل برقم هاتفه وهو لا يعرفنى شخصيا؟ قد لا يكون من اللائق أن أتطفل عليه بهذه الطريقة؟!. عندها قالت صديقتى مشكورة: احتفظ بالرقم، من يعرف، قد تجد الفرصة للتحدث إليه ذات يوم. وفعلا جاء الوقت المناسب، إذ أننى بدلا من أن أضغط على "إرسال" إلى دار النشر، أبقيت البريد معلقا، وقمت بإرسال مسودة المجموعة الشعرية إلى أدونيس عبر تطبيق واتس اب، علما بأننى لم أكن أتوقع أن يرد على فورا، ولأكون صريحا أكثر فأنا لم أتوقع ردا من الأساس باعتباره شخصا مشهورا ودائم الانشغال، إلا أنه ولحسن الحظ رد على فى ذات اليوم. الساعة ١١ ليلا بتوقيت بيروت، تلقيت اتصالا خارجيا أجبت عليه بسعادة غامرة بعد أن سمعت "مرحبا، معك أدونيس". ثم أضاف: "أعجبت كثيرا بمجموعتك الشعرية، نعم لدى بعض الملاحظات حولها، لكنها أعجبتنى كثيرا". ثم بعدها شرفنى بضمها إلى مشروع تحولات الذى يشرف عليه شخصيا بالتعاون مع رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط فى باريس عبد الرحيم على مؤسس "المركز العربى للصحافة" فى القاهرة - مصر. 
شكرا لأدونيس الإنسان والشاعر، شكرا للقائمين على مشروع تحولات والشكر موصول لفريق عمل دار المركز العربى للصحافة.
 


 الشاعر في سطور

يوسف الخضر شاعر وكاتب سورى مواليد 1995 فى محافظة الحسكة.. صدرت له رواية بعنوان "الهامستر" عام 2021، ومجموعتان شعريتان، إحداهما بعنوان "مطر على ملامح غربتي" 2015، والأخرى بعنوان "قبرٌ فى الأرض قبرٌ فى السماء" عام 2021.
كاتب مشارك فى الفيلم الوثائقى الأمريكى الطويل "بائع الورد". كما كتب وأخرج مسرحية بعنوان "طق براغي" وهى مسرحية توعوية تعالج قضية التمييز ضد المرأة. يكتب ويعد تقارير صحفية لصحف ومواقع عربية.