هشام عصام: أغلب العازفين يتجهون إلى المدرسة الخليجية.. ونادرًا ما يسمع العود المصرى سوى فى الدراما
نجحت فى أن يصبح لى مدرستى الخاصة.. والخروج من عباءة القصبجى يحتاج إلى مهارة
للأماكن تأثير كبير على الحالة النفسية للعازف
إذا أمسكت آلة العود وعزفت عليها ليس شرطا أن تحصل على لقب «فنان»، أنت فقط ستكون عازف عود، مجرد حِرفى، تعلمت كيف تمسك الريشة بيدك اليمنى وكيف تصدها وتردها على الأوتار، وكيف تبصم على الأوتار بيدك اليسرى، وكيف تكون لديك أذن حساسة تحدد بها أصوات النغمات إن كان الصوت «دو» أو «فا»، إن كان نصف تون أو ربع تون، لكن حينما تنتقل من مرتبة الحِرفى إلى مرتبة الفنان فإن للأمر هنا حديثا آخر، حديث يتعلق بالإنسان وعراكه مع أزمته الوجودية.
هنا يستشعر الحرفى فجأة أزمته كإنسان فيقرر أن يواجه هذا الغموض الوجودى بما يمتلكه من حرفة، فتصبح حرفته منزهة من الغرض ليست موظفة لدى حزب سياسى أو حكومة أو أية سلطة من أى نوع سواء إن كانت بشرية أو مفاهيمية، وتصبح الحرفة رفيقة هذا الإنسان فى رحلته الوجودية الغامضة فيتمرد بها على السائد ويبحث بها وفيها عن ذاته المعذبة فيصير بذلك فنانا بعد أن كان حرفيًا يعزف لينفذ التعليمات.
تلك الجدليات التى دارت فى رأسى كان علىّ تحقيقها بالتفتيش عن فنان ومشاركتها معه ونقلها للقراء، فشاءت الصدفة أن ألتقى بعازف العود الفنان هشام عصام فى ريسيتاله الأخير بقصر الأمير طاز.
أتابع «هشام» منذ زمن سواء فى حفلاته أو من خلال الصولوهات التى يعزفها فى ألبومات عدد من الفنانين على رأسهم الكينج محمد منير أو التى يعزفها كمشاركة فى موسيقى تصويرية لأعمال درامية شهيرة كان آخرها تتر «جعفر العمدة» و«سره الباتع» و«وعود سخية».
عزف العود مع جن الكمان وأحد أبرز أعضاء فرقة كوكب الشرق أم كلثوم الموسيقار عبده داغر، وقد لاحظت فى مسيرة هشام تحقيق جدليات كثيرة كانت تدور فى رأسى بشأن آلة العود وماهية الفنان، فها هو الفنان يسير فى الاتجاه غير الاستهلاكى لتلك الآلة التى تغلف تراثنا المصرى.
يتحدث هشام عن ثراء آلة العود فيقول: «آلة العود من الآلات الموسيقية الثرية للغاية فى عزف جميع الأشكال الموسيقية فى العالم، فهى ليست فقيرة على الإطلاق كما كان يظن فى وقت سابق، ففى وقت من الأوقات انحسرت آلة العود على عزف اللحن الذى يؤديه المغنى فقط بدون أن تصاحبه هرمونيا أو أن تعزف وراءه خطا مختلفا، رغم أن العود يستطيع أن يفعل ذلك، ولذلك أصبح الهم الأساسى الذى ينتابنى أثناء كتابتى مؤلف لآلة العود هو أن أهتم بإبراز إمكانيات تلك الآلة».
على عكس فنانين كثيرين، فهشام عصام ترعرع فى عائلة ليس لها باع فى العمل الفنى، بسبب صدفة ما درس الموسيقى وهو فى عمر الـ11 بمعهد الموسيقى بالإسكندرية ثم انتقل بعدها بعامين إلى مركز تنمية المواهب بدار الأوبرا وامتدت دراسته وإثقال موهبته حتى تخرج في كلية التربية الموسيقية عام 2005 وحصل على درجة الماجستير فى الموسيقى العربية عام 2018.
ولـ«هشام» أسلوب فريد من نوعه فى العزف على آلة العود، فهو من العازفين الذين حافظوا على مدرسة العود المصرية، وأضاف إليها ثقافات مختلفة من شتى أنواع الموسيقى العالمية، فعن هذا الأسلوب يقول «هشام»: «أرفض العزف بالشكل التقليدى، وأهتم بالتطوير فى كل شيء وأقصد بالشكل التقليدى هنا شكل الجيل القديم من عازفى العود المصريين الأساتذة كالقصبجى والسنباطى وغيرهما، لى أفكارى وأسلوبى الخاص بحكم أنى ذاكرت جيدا مدرستى المصرية والمدارس المختلفة الأخرى كالعراقية والتركية والخليجية وكلها مدارس محترمة ولها أصول وجذور وتاريخ، فمن المرور على كل هذه المدارس تستطيع أن تخلق شخصيتك الخاصة التى تمزجها بالموسيقات العالمية كالكلاسيك والجاز والمودرن والكونتبورارى والفلامنكو، فعندما تصنع رؤية من كل هذه الأشكال تصبح لك مدرستك الخاصة».
وتابع: «أعتقد أننى نجحت فى أن يصبح لى مدرستى الخاصة، وحتى لا يفهمنى أحد بشكل خاطئ أريد أن أوضح أن الخروج من عباءة القصبجى كمثال يتطلب أن تذاكر القصبجى جيدًا التقليدى وتحفظ جيله جيدًا وتتشبع به، هذا هو الطريق الأساسى لإضافة أفكار جديدة فى العود المصرى، بالإضافة إلى شيء مهم للغاية وهو تشعب الثقافة الموسيقية للعازف لا بُد أن يسمع الفنان صوت العالم كى يخرج صوته الخاص ويصقل مهارته ويبرز شخصيته الموسيقية وهويته».
«العود المصرى» كفن يندثر هم من هموم هشام عصام، هناك موسيقى جديدة تسيطر على العصر وتسعى لقهر هذا الفن، والأسباب فى ذلك عديدة ربما يكون رأس المال الضخم فى الخليج وتبنيه لمواسم موسيقية ضخمة عزز من صعود الموسيقى الخليجية والعود الخليجى على العود المصرى، ربما يكون الانفتاح التركى على الغرب جعل العود التركى يتجلى عالميا، ربما وربما، الاحتمالات عديدة لكن تقهقر العود المصرى ظاهرة جلية وواضحة، وأزمة كبرى تستدعى النقاش نظرا للتراث الضخم للعود فى مصر منذ أن أمر السلطان المنصور سيف الدين قلاوون بعلاج الناس بالموسيقى حينما أنشأ البيمارستان المنصورى وجعل عازفى العود فى العصر المملوكى يكونون بمثابة أطباء لمرضى هذا العصر.
ويوضح «هشام» ذلك ويقول: «الفرق بين أنواع الأعواد الشرقية يكمن فى مستوى أسلوب العزف وعلى مستوى بناء الألحان أيضًا، ومن هذا المنطلق تختلف المدرسة المصرية عن العراقية والتركية، أما بالنسبة للسورية فلا يوجد اختلاف كبير بينها وبين المصرية لكن العراقية هى من لها طابع مختلف بعض الشيء، والاتجاه الذى يتجه إليه أغلب العازفين الآن هو المدرسة الخليجية والتركية وهذا بحكم الحياة، فكل شيء تغير فى الموسيقى، نادرًا ما نسمع أسلوب العود المصرى سوى فى دراما المسلسلات المصرية».
قد يظن البعض أن الموسيقى يتعامل مع الأصوات فقط لا يفكرون دائمًا فى كيفية مسرحة الأصوات وهذا فن آخر يركب تركيبا مع الموسيقى، يحرص هشام عصام على الشكل المسرحى الذى سيقدم به ريسيتالاته؛ جلسة العازفين وتكوينها على خشبة المسرح، طريقة تقديم التحيات للعازفين زملائه الذين يساعدونه فى بروزة عوده ووضع سيناريو لعرض مقطوعاته وتسلسلها فيبدأ بتقديم مؤلفاته الخاصة ثم يقدم مختارات لأستاذه عبده داغر تليها عرض لأعمال جيل الرواد أمثال القصبجى والسنباطى وعبدالوهاب.
وتفاصيل أخرى يكشفها لنا إذ يقول: «ريسيتال قصر الأمير طاز خامس ريسيتال لى فى مصر، ولدىّ هم مسرحى بالفعل فى إخراج الريسيتالات وهذا الهم تشكل بحكم أننى عزفت مع فرق مختلفة وأوركسترات عالمية، فأحب أن أنوع فى عروضى وفى نفس الوقت أتمرد على شكل التخت التقليدى الذى يتكون من «عود وقانون وناى ورق»، فأريد دائما تحديث عروضى كأن أصطحب معى على المسرح البيانو، البيانو صوت ثرى للغاية فى الهارمونى، كما أنه يستطيع أن يشارك العود فى عزف الميلوديات وألحان الأغانى ومن الناحية الإيقاعية أهتم بتحضير الكونترباص مع آلات البيركاشن كالخاون والرق لكى أصنع بهم تركيبتى الخاصة التى يقودها العود».
مثلما ركب «هشام» الموسيقى مع المسرح ركبها أيضًا مع «الفويس ريكورد»، و«الريكورد» بمثابة نوع من الكتابة أن تصنع «ريكورد» يعنى أنك تكتب نصًا، فى النهاية سينتشر هذا النص كواقعة تنتمى إلى واقع بمعزل تمامًا عن كواليس الأداء، للتفرقة بين التسجيل الصوتى والعزف الحى على خشبات المسارح عند هشام عصام، صولهاته فى أغانى المينستريم والبوب مميزة للغاية لا يعزف لحن المغنى لكن يختار لعب خط آخر موازٍ، فعل ذلك فى الألبومات الأخيرة مع محمد منير.
هل «هشام» يحب الارتجال ويرفض اتباع ما وضعه موزع الأغنيات أم ماذا، فى هذا الشأن يجيبنا فيقول: «أحيانًا هنالك ارتجالات يسمح لى أن أقول فيها وجهة نظرى وهناك أيضا أشياءً أخرى أفعلها بالاتفاق مع المؤلف الموسيقى كى أنفذ له ما يريد، وهناك صولوهات تعزف كما هى مكتوبة دون أى تحريف وهذا يكون فقط فى الأعمال الدرامية والموسيقات التصويرية، لأن المقطوعة هنا تكون جزءا من مشهد درامى ولها غرض فى إثراء المشهد أنا لا أعلمه فيجب تنفيذه كما هو، أما فى الأداء الحى، فالأمور تختلف كثيرًا، فى الاستديو يكون للعازف سيشن تسجيل يحضره، ويجب أن يعرف العازف جيدًا حينها كيف يجلس أمام المايك وتفاصيل الغرفة المعزولة عن الأصوات الخارجية التى يجلس داخلها فيكون الموضوع فى غاية الحساسية حيث إن أى لمسة للوتر بالريشة ستظهر فى الريكورد، فيجب هنا أن يكون العازف مفعما بالحرص والحذر وهذا له طرقه وأسلوبه لكن فى الأداء الحى تكون الأمور حرة كثيرا بل بالعكس كلما لعبت الأمور بتلقائية فى اللايف كلما أحدثت تفاعلًا أكبر».
ينتقل «هشام» لموضوع آخر ليس منفصلًا عما سبق فيقول إن للأماكن تأثيرا كبيرا على الحالة النفسية للعازف، فالمسرح المكشوف مثلًا يختلف عن المغلق، والعزف فى الشرق يختلف عن العزف فى أوروبا، حتى على مستوى اللعب المحلى شعور العازف وهو يلعب على مسرح محمد عبدالوهاب يختلف عن لعبه فى قصر الأمير طاز أو قبة الغورى.