يأتي إصدار "التنظيم القبلي والعائلي وعلاقته بالتنمية الاجتماعية بسيناء"، ضمن إصدارات منهجية نوعية، تنشغل بدراسة ميدانية إنثربولوجية سسيولوجية، أصدرها المركز الحضاري لعلوم الإنسان والتراث الشعبي (2022 - جامعة المنصورة)، وقادها الدكتور فاروق أحمد مصطفى الذي رحل قبل أن يشهد صدور الكتاب، والدكتور محمد أحمد غنيم الذي أوفي بعهده لأستاذه فاروق، ولسجل البحث القومي الحضاري بما تم بحثه وتوثيقه عن سيناء (ماقبل مفاعيل كورونا)، رفقة ثلة باحثين وباحثات من طلاب الدراسات العليا بجامعتي الاسكندرية والمنصورة (قسمي الانثربولوجيا والاجتماع)، في درس تطبيقي أتيح لهم فيه مقاربة رقعة من وطنهم، ومعايشة الحقل المكاني بكل خصوصياته وأبعاده.
محافظة سيناء لها أهمية استراتيجية سياسية واقتصادية، فهي الحصن الشرقي لمصر، ومنه عبرت معظم الغزوات التي استهدفت مصر في سجل تاريخها القديم أو الحديث، الدراسة التي امتدت لسنتين، تناولت بتفصيل اثنوجرافي المجتمعات المحلية في شمال سيناء وجنوبها، الجزء الحضري (الشمالي الساحلي)، والجزء البدوي فيها (جنوب الجزء الشمالي الحضري) مع الإحاطة بأن الجزء الساحلي لايخلو من قبائل البدو، وتعاين الدراسة في فصلها الأول دلالات ارتباط تسمية المناطق المحلية التي تمت زيارتها ميدانيا بمرجعيات عدة، منها ما تعكسه البيئة الايكولوجية كآبار المياه، أو المناطق المتخصصة (قرية الجورة، قرية المنجم)، أو بأسماء القبائل، فنخل مثلًا نسبة إلى قبيلة النخلاوية، أو بعض الأشخاص والعائلات، كقرية ابي طويلة بمركز الشيخ زويد، ومدينة الشيخ زويد نفسها، وبئر العبد، وقرية الخرافين، وقرية الحسينات، كما ترتبط أحيانا بأسماء الحيوانات (قرية الجدي)،أو أسماء دينية مثل طور سيناء أو سانت كاترين.
وقد لفت انتباهي في فصل الكتاب عن السمات السكانية في المجتمع السينائي، التقارب والتمازج في الأصول مع قبائل ليبية، كالدواغرة (الدغري)، الرميلات (الرملي)، صوالحة (بن صالح، الصالحي) والجبالية، والمنصوريين.. وغيرها من القبائل. كما ومدلول واصطلاح شعبي لمفردة "البيت"، فعند بدو ليبيا طرح سؤال شخصي "لبيت من تنتمي؟" يتقصد منه سؤال عن الوحدة القرابية / القبلية، وليس سؤالًا عن السكن أو المستقر المادي. وأيضا في مبحث البيت والمأوى البدوي، مقاربة لبيوت البدو الرحل في أغلب منطقتنا العربية قديما، ما تصنع من شعر الماعز، بيوت الشعر(خيام متنقلة) التي تتفق مع حال الترحل حيث تتوافر المراعي الخضراء. ولطبيعة سيناء في جانبها البحري، بيوت صيادي السمك المتنقلة من الخشب أو الصفيح، كما تبنى البيوت المستقرة التي تعتمد خامات محلية كمساكن أهل العريش أو بئر العبد ما تبنى بالطوب الأحمر يخالطها بعض الطمي، أو من الطوب الاسمنتي، وتنبه الدراسة الى تحولات السكن في سيناء، إذ تناقص الثروة الحيوانية، والانصراف عن مهمة الرعي تجعل النظرة إلى البيوت الثابتة المبنية أرخص تكلفة، وأكثر متانة، وأطول بقاءً وضمان استقرار مع المتغيرات الحكومية المنجزة في وجود شبكة الكهرباء والطرق والخدمات الصحية والتعليمية.
وفي فصل معمق في سبره الاستقصائي عن القبائل من حيث الأصول والانتشار، وعن التنظيم القبلي والتوزيع الإقليمي وأسس التمايز القبلي وعلاقاته بالتنظيمات السياسية يكشف من خلاله الباحثان وفريقهما، عن درجة عالية من التعاون والتكامل في التنسيق بين الاجهزة الإدارية والفنية والتنظيم السياسي القائم على المجالس الشعبية المحلية، ونتعرف على العلاقات بين القبائل، ودور الزعماء السياسيين وشيوح القبائل وظلال سلطتهم في تنفيذ القرارات الإدارية، وعند الترشح لعضوية المجالس المحلية.. الفصل مرفق بجهد لافت، يعتمد جداول ثبت جينولوجي لأهم القبائل وتفرعاتها في شمال وجنوب سيناء. وبنهايته خلاصة مُركزة تحيل الباحث والقاريء المهتم الى نظرة الأجيال الجديدة الى وشائج البناء الاجتماعي القبلي بما كانت عليه، من ناحية قصدية الحفاظ على تعزيز روابطهم بالأصول القبلية لهم، فاليوم أعضاء القبيلة الواحدة قد ينتشرون في عدة وحدات مكانية مختلفة ومتفرقة ومتباعدة، قد يتجاوز انتشارهم فيها المناطق التقليدية التي ارتبطت بها القبيلة كلها في زمن مضى.
للتنظيم القبلي والعائلي في شبه جزيرة سيناء، أنماط اقتصادية متعددة يحكمها التفاعل والتعاطي مع جغرافيا ومناخ المعيشة، وتخدم أهداف التنمية الإجتماعية الشاملة، ما تعتمدها القبائل المقيمة المحلية، والوافدون من وادي النيل، ويعد نمط الرعي من أهم الانشطة الاقتصادية السائدة، والدراسة تشير الى خطر الانقراض للشكل التقليدي لفعل الرعي، ومن تعليلات ذلك توفر الماء والعشب من جهة، والاستقرار ومتغيرات التحديث من جهة أخرى. فيما تظهر المرأة في مستجدها بالمجتمع السينائي وقد ارتفعت نسبة تعليمها الى حوالي 90%، وفي عملها وفق معطيات المكان، راعية للأبل، وبالمثل للأغنام، وقد حظيت بأجر نقدي جيد، وقبلا كان نظير عملها، بمقابل عيني يطلق عليه محليا "نصف البطنة"، قيمته ابن عنزة أو ابن شاة. أما نمط الصيد البحري فيتمركز شمالا في بحيرة البردويل، التي تتمتع بغذاء طبيعي ومياه هادئة، وجنوبا عند مدينة الطور الى قرية الجبيل وحتى رأس راية. وعن النمط الزراعي وقد شهدت فيه سيناء قفزة نوعية مؤخرا، ببروز منتجات زراعية تستهلك محليا، وقابلة للتصدير، منها الفواكه، والخضار الصيفية والشتوية، والعدس والبطيخ واللوز وغيرها.. ويأتي نمط الصناعة والتعدين بمستقبل مشاريع صناعية في سيناء العامرة بمواردها التعدينية، الرخام والحجر الجيري وأحجار الزينة والكبريت، ويتوقع سكان سيناء فرص متاحة لمواطن عمل وتحسين مستوى المعيشة، بعد إعدادهم وتدريبهم، وخاصة منهم حملة المؤهلات والخبرة، بما سينجز بها من صناعات هندسية وكهربائية وغذائية وكيماويات.
البحث يلقي بسبره أيضا، في متعلقات التنظيم القبلي والعائلي، بأثر التنمية السياحية، ومشاركة السكان فيها، كأصحاب مشاريع وأنشطة مختلفة يمارسونها، تحرك اقتصادهم وتوفر مدخولا، كسياحة الخيام في كل من دهب وشرم الشيخ، أو سياحة السفاري في الطرق الجبلية، والسياحة الترفيهية ومنها الاصطياف، والسياحة الثقافية الى المزارات والقلاع، والسياحة الصحية العلاجية كالدفن بالرمال، والسياحة الرياضية كسباق الهجن، وسياحة المشتريات الفلكلورية التذكارية.
وبالعود الى مقدمة الكتاب،التي يشير فيها الباحث الكبير والحائز جائزة الدولة في العلوم الاجتماعية 2019 د.محمد أحمد غنيم، تعهده بإصداره، امتثالا لوصية حملها، من آخر لقاء له مع أستاذه د. فاروق مصطفى بالأقصر 2017، وكعربون وفاء وتقدير، وإهداءً لروحه، من عُرف في سيرته، بقضائه ردحًا من عمره دارسا ميدانيا، ما أنتجه كتبا خلدت أسمه، كما سيخلده هذا المنجز البحثي الرصين ما قارب الأربعمائة صفحة، والذي قدم توصيات تمثل خارطة طريق إرشادية، مرفقة بمقترح مشاريع في تنمية المجتمعات المحلية لمحافظة سيناء وغيرها، جديرة بتحققها على الأرض.