رغم الأوضاع المتردية والمتأزمة التى كان يعيشها القطاع الطبى والصحى فى السودان منذ سنوات؛ جاءت الحرب لتزيد من «الطين بلة»؛ تزامنا مع نزوح الأطباء وارتفاع تكاليف العلاج لأثمان باهظة، واختفاء المستلزمات الطبية وصعوبة وصولها للمستشفيات إن وجدت؛ ما فتحت المعارك الباب أمام المتاجرة بأوجاع وآلام المرضى، لتُصبح الحياة فى السودان مرهونة للبيع بأعلى سعر.
الدكتورة هويدا أحمد الحسن، استشارى النساء والتوليد بمستشفى ألبان جديد شرق النيل بولاية الخرطوم، روت فى حديثها لـ«البوابة نيوز» كواليس من دفتر حكايات «الدمع والألم»؛ على مدار أكثر من شهر منذ اندلاع الاشتباكات، مؤكدة أن الأوضاع الصحية فى الخرطوم سيئة للغاية، فكل يوم يمر يزداد الوضع سوء عن اليوم المنقضى، فالطرق غير آمنة للوصول إلى المستشفيات وسط تزايد الحاجة الملحة للأطقم الطبية في ظل نقص واختفاء المستلزمات الطبية والعلاجية وارتفاع ثمنها.
ندرة الكوادر الطبية كارثة تضاف لأزمات نقص المستلزمات والأدوات والعلاج
وتسرد الحسن قائلة: «ثانى أيام الاشتباكات المسلحة أجبرنا فى منطقة شرق النيل بالخرطوم على إعادة فتح مستشفى ألبان جديد لاستقبال الجرحى والمصابين نظرا للارتفاع غير المسبوق فى الأعداد بين العسكريين والمدنيين؛ إلا أن ندرة الكوادر الطبية كانت أزمة جديدة تضاف لأزمات نقص المستلزمات والأدوات والعلاج، وزيادة أسعارها لأرقاما باهظة الثمن-إن وجدت- مع استمرار انقطاع الماء والكهرباء بشكل شبه كامل؛ فأطلقنا نداءات عاجلة بضرورة وسرعة استجابة الكوار الطبية القريبة من مستشفى ألبان جديد للمساعدة فى إنقاذ حياة الآلاف من أصحاب الأمراض المزمنة ومصابى الحرب».
النداءات العاجلة والتى انتشرت بكثافة عبر مواقع التواصل لقيت استجابة، وحضر عديد من الكوادر الطبية ممرضين وفنيين تخدير، ودشنت الأحياء لجان شعبية من المدنيين المتطوعين لخدمة المرضى وأصحاب الحوائج، والذين سطروا ملحمة بطولية وكانوا عاملا هاما فى استمرار تقديم الخدمة للمرضى والمصابين، فوفروا الطعام والشراب والإمدادات الطبية رغم نقصها؛ بينما واصل الطاقم الطبى فى المستشفى- وهو ضئيل جدا بالنسبة لأعداد المرضى والمصابين- استقبال المرضى وإجراء العمليات والإسعافات اللازمة.
ارتفاع تكلفة الولادة القيصرية لأرقام باهظة فى المستشفيات الخاصة
مر الأسبوع الأول من الاشتباكات؛ على أمل أن تهدأ الأوضاع ولكن ازدادت سوء وبات المسؤولية الطبية أكثر تعقيدا؛ فى خضم زايد المرضى والمصابين وتوافد السيدات الحوامل الذين لم يجدوا المستشفيات الحكومية لمتابعة حملهن، وهو الأمر الذى زايد من ثقل المسؤولية الطبية حتى باتت غرفة العمليات تعمل على مدار الـ 24 ساعة متواصلة دون توقف؛ بل وصل الأمر إلى فتح غرفة عمليات أخرى، بسبب زيادة أعداد عمليات الولادة القيصرية والتى ارتفعت تكاليفها لأرقام باهظة الثمن فى المستشفيات الخاصة.
وأكدت أن النساء وأرباب الأسر باتوا عاجزين عن تحمل التكاليف؛ فأجبرتنا الإنسانية من ناحية والمسئولية الطبية من ناحية أخرى، على إنقاذ حياة الحوامل اللواتى كدن أن يلقين حتفهن بسبب صعوبة إجراء العمليات القيصرية؛ وأجرينا عددا كبيرا من عمليات الولادة القيصرية رغم سوء الأوضاع المزرية.
نجرى العمليات الجراحية بمساعدة فنى تخدير فى ظل عدم وجود أخصائى تخدير
عن كواليس إجراء العمليات الجراحية فى زمن الحرب؛ رغم ضعف الإمكانات وندرة الكوادر الطبية ونقص المستلزمات والأدوية وارتفاع ثمنها؛ تضيف عضو منظمة أطباء السودان من أجل حقوق الإنسان، قائلة: تحملنا الكثير من المخاطر؛ وكنا نجرى العمليات الجراحية بمساعدة فنى تخدير فى ظل عدم وجود أخصائى تخدير؛ كما أن تعقيم المرضى وغرفة العمليات والأدوات لم يكن يتم بالطرق المحددة نظرا لكثرة العمليات الحرجة، فكنا نسرع فى التعقيم لإنقاذ حياة مرضى يطاردهم الموت فى كل لحظة؛ أما أعداد الجرعات والمضدات الحيوة التى كان لابد أن يتجرعها المرضى لم تكن تتم بالصورة المطلوبة، للنقص الحاد فى الدواء والمستلزمات الطبية.
اقرأ أيضًا:
صحة السودان تكشف لـ«البوابة نيوز» تفاصيل اعتداء «الدعم» على مستشفى وطرد المرضى
لا نعرف الراحة ونعمل على مدار الـ 24 ساعة.. والنوم ساعتين جالسين على الكرسى
وتواصل الطبيبة حديثها مع «البوابة نيوز» عن أيام الدمع والألم فى زمن الحرب: «رغم كل المخاطر التى كانت تواجهنا أثناء عملنا فى المستشفى؛ إلا أن أكبر المشكلات والتحديات والعقبات التى كادت أن تفتك بنا على مدار الشهر الأول من الحرب، هى قلة وندرة الكوادر الطبية؛ وهو الأمر الذى أرغم كل الطاقم الطبى للمكوث فى المستشفى لنحو أكثر من 30 يوما على التوالى لم نعرف فيها الزمن ولا الوقت ولا الراحة، حتى إن قسط النوم كان لا يتخطى الساعتين على مدار الـ 24 ساعة». مُتابعة «كنا ننام ونحن جالسين على الكرسى.. لا مجال للراحة ولا حتى التفكير فى أسرنا.. فكنا نخوض حربا ضروسا نصارع فيها شبح الموت الذى يطوف فوق الرءوس».
وأكدت أن الفرد الواحد فى الأطقم الطبية، كان يقوم بعدة وظائف، فأنا كطبيبة جراحة أجرى العملية برفقة فنى تخدير فقط؛ وأنا أيضا أقوم بوظيفة محضر العملية ومساعد العمليات وجراح العملية، أما الممرض كان يعقم وينظف غرفة العمليات ويغسل ويعقم المعدات، وهو أيضا من يحضر الطعام ويمرض الأشخاص «الفرد الواحد من الأطقم الطبية كان لديه العديد من الوظائف المتعددة فى الوقت ذاته».
وتستطرد عضو منظمة أطباء السودان: «قبل حرب السودان، كان مستشفى ألبان جديد، يعمل فى جميع التخصصات النساء والتوليد والأطفال والباطنة والأسنان والعيون؛ ولكن بعد اندلاع الاشتباكات أصبح المستشفى يجرى عمليات الجراحة الطارئة والعمليات القيصرية؛ وبات أصحاب الأمراض المزمنة والأمراض السرطانية والكلى يأتون للمستشفى، ولكن للأسف لا يجدون العناية والمتابعة اللازمة لعدم وجود الكوادر الطبية المتخصصة، وهو الأمر الذى كان غصة فى الحلق رغم الألم الذى نعيشه».
«نحن كأطقم طبية عجزنا عن تقديم الخدمة لأصحاب الأمراض المزمنة رغم تألمهم فى ظل تزايد أعداد المصابين والجرحى بسبب الحرب وتضاؤل المعونات الطبية وصعوبة وصولها للمستشفى وانقطاع الكهرباء واختفاء الوقود نهائيا؛ حتى أن الكوادر الطبية التى كانت تسكن على مقربة من المستشفى، عجزت عن الحضور بسبب اختفاء الوقود؛ إلى جانب شح الطعام وصعوبة الحصول على الماء».
اقرأ أيضًا:
العمليات الجراحية تجرى على ضوء «كشافات الموبايلات»
وعن أصعب الحالات التى وردت إلى المستشفى فى الشهر الأول من الحرب، تقول الطبية التى ذاع سيطها بين السودانيين فى أيام الحرب بسبب مجهودها برفقة زملائها الأطباء: «فى إحدى الليالى اشتدت المعارك وباتت أصوات الرصاص وأزيز الطائرات يملأ السمع، وإذا بأصوات استغاثة قوية تدوى فى طوارئ المستشفى لإنقاذ سيدة تضع مولودها فهرع عدد من الممرضين والفنيين خارج المستشفى لمساعدتها».
وتابعت: «لكن الوقت كان ضيق للغاية تزامنا مع طلق الولادة، ولم يتمكنوا من إدخالها للمستشفى؛ ولكن تمت ولادة السيدة داخل إحدى السيارات على أعتاب المستشفى بمساعدة ممرضين وفنيين لا علاقة لهم بقسم النساء والتوليد، وهنا تبدلت لحظات الخوف والهرع لفرح بإنقاذ مولود وأمه رغم المصاعب».
وتكمل قائلة: «لم تكن ولادة سيدة داخل سيارة زوجها على أعتاب المستشفى أصعب الحالات؛ ولكن كانت هناك عملية جراحية أخرى هى الأصعب على الإطلاق ولم نجرى مثلها من قبل؛ ففى إحدى العمليات الجراحية لولادة قيصرية؛ انقطعت الكهرباء أثناء العملية؛ وكانت السيدة توشك على الموت؛ ولكن استكملنا العملية بواسطة كشاف الموبايلات وبالأخير تمكنا من إنقاذ السيدة ومولودها».
وعن لحظات الفرحة التى ملأت القلوب رغم الحزن والألم والحسرة؛ تقول الحسن، إنه أثناء إجراء إحدى العمليات القيصرية بقسم النساء والتوليد، توقف قلب الأم؛ وكانت تحمل توأمين، ولم يكن أمامنا خيار سوى سرعة إنقاذ التوأمين أولا والتضحية بالأم؛ وفى ظرف ثوان معدودة استطعنا أن نخرج الطفلين من بطن الأم؛ ولكن الحظ وتوفيق الله كان حليفنا، فبعد إخراج التوأمان بدأنا محاولات إنعاش قلب الأم، وكلل الله جهودنا بعودة الأم للحياة مرة أخرى، تلك كان أصعب وأسعد المواقف التى مررت بها فى حياتى المهنية والطبية.
اقرأ أيضًا:
نعيش أوضاعا صعبة ومأساوية لا يتخيلها عقل
وبعد مرور أكثر من شهر على حرب السودان، تختتم استشارى النساء والتوليد بمستشفى ألبان جديد، حديثها مع «البوابة» قائلة: نعيش أوضاعا صعبة ومأساوية لا يتخيلها عقل؛ فالمرضى يموتون بسبب الأمراض ونقص العلاج وغلائه وليس الرصاص؛ وأصبح مرض الكلى والسرطانات الأكثر تضررا لتعثر وصولهم للمستشفيات؛ وأضحى الموت يحيط بنا من كل جانب، معبرة عن أوجاع ومشقة معيشتهم فى زمن حرب، بقولها: «إن تقصفنا دانة.. سيكون أهون وأرحم من العذاب الذى نعيشه».