صديقي المتمسك بالحياة رغم رائحة الموت.. الضاحك رغم مصادرة الفرح.. المكدود غير المحمود على فعل ولا قول في عملك أو بيتك أو بين اقرانك لأنك مازلت قادر على الاستمتاع.. ما زال بإمكانك أن تحب وتحلم.. ما زلت ترى الجمال رغم سطوة القبح.
فيا أيها الصديق دون ذكر اسم فأنا أعرفك بالروح وأحدثك بالقلب.. دعك من كل ما يؤرقنا اليوم.. لن نستطيع أن نغير شئ سوى "مزاجنا" فأقبل دعوتي لحضور هذه الحفلة، بالكاد يا صديقي أحضرت دعوة للمشاهدة من الشرفة فدخول الجنة ليس بالأمر الهين، تلك حفلات الصالونات ممن كان يشار إليهم بالبنان ونحن نأت من زمن "المهرجانات" محملين باللعنات.
إليك العنوان "كرمة بن هانئ" على النيل.
نعم حيث يسكن أمير الشعراء أحمد شوقي.
لا تحتار في مصدر الدعوة!
بينما كنت يا صديقي أترجل في صفحات الماضي دلفت قدامي إلى "كلوب سولت" في شارع فؤاد وهناك رأيت أحمد بك شوقي يقف مع النقراشي باشا، والدكتور محجوب ثابت، وكان معهم.. لن تصدق! كانت أم كلثوم، وقد سمعت أمير الشعراء يدعوها للغناء لديه.
ها نحن يا صديقي وصلنا إلى الشرفة أخرج كل زفير يومك الشاق وتجهز لتعبئ قلبك بالكلم واللحن والنغم.
ها هي ثومة وصلت مع أخيها وأبيها.
أتسمع صوت عود الشيخ زكريا! ما أعذبه، كيف طاوعت الأوتار أنامله..
اللي حبك يا هناه
اللي حبك يا هناه في نعيمه أو شقاه
نور عيونك في فؤاده يضوي في ليلة سهاده
إن راعيتي له وداده في بعـاده يـا هنـاه
وان سمع كلمة تراضيه إالا شافك بتراعيه
ينسى همه واللي فيه من شقـاه يا هناه
تبعـدي يسبـح خيـاله في اللي قلتيه واللي قاله
يلقى حاجة تسر حاله يهـدا بـاله يـا هنـاه
وان هجرتي قال تجني بكره تصفى وترضى عني.
اترى حال أمير الشعراء إنه لا يستقر على حال مشدوها، يترجل بين الحضور.. يرسل كأسا لثومة فترفعه على ثغرها ولا تشرب.. إنه يدون شيئا ما.
ترى ما أغضب ثومة!
تقول الدكتورة رتيبة الحفني، إن شوقي أراد أن يثني على ثومة فعرض عليها مالا في مظروف لكنها رفضت انصرفت يشوب وجهها حمرة من غضب.
هيا لنتبعها حتى منزلها.. لنبقى هنا يا صديقي قليلا فليس هناك أمتع من البقاء ولو لحظات في مملكة السلطنة.
انظر يا صديقي من القادم إنه أمير الشعراء وفي يده نفس المظروف؟
ها هما يتحدثان أتسمع شئ؟
نعم سمعت أم كلثوم في إحدى الحلقات الإذاعية مع وجدي الحكيم وهي تقول: "تاني يوم الحفلة، قالولي شوقي بيه تحت، قولتلهم إزاي كده؟ فنزلت إليه مسرعة، ووجدته يحمل ظرفا بيده، فشعرت للمرة الثانية بالغضب، فأنا أحبه ومتعصبة له ودائما كنت أقول إن شوقي بك، لم يجود ولن يجود الزمن بمثله، إنني أضعه في مرتبة تسبق مرتبة البحتري وعمر بن أبي ربيعة".
وتتابع ثومة: قلت له يا شوقي بك إن كان ما في الظرف مال سأمزقه، فتبسم وقال: بل هي قصيدة كتبتها أمس من وحيك".
فتذكرت ثومة حديثها لوالدها عن تنقل أمير الشعراء وغيابه وعودته، فأجابها إن وحي الشعر يناديه فيذهب ليدون شئ، وما كانت ثومة تدري أنه حينما رفعت الكأس ولم تشرب منه كان شوقي يدون أروع ما يمكن أن يكتبه قلم:
سلوا كؤوس الطلا
هل لامست فاها
واستخبروا الراح
هل مست ثناياها
باتت على الروض
تسقيني بصافية
لا للسلاف
ولا للورد رياها
ما ضر لو جعلت كأسي مراشفها
ولو سقتني بصاف من حمياها
هيفاءُ كالبان
يلتف النسيم بها
ويلفت الطير
تحت الوشي عطفاها
حديثها السحر إلا أنه نغم
جرت على فم داو فغناها
وكانت ام كلثوم عدلت في القصيدة حيث ذكرها شوقي مرتين فكتب: سل أم كلثوم من بالشرق طارحها، فغيرتها، حمامة الأيك من الشجر طارحها. وعدلت يا أم كلثوم ايام الهوى ذهبت إلى يا جارة الأيك أيام الهوى ذهبت.
الغريب أنه رغم رووعة اللقاء لم تغن ثومة لشوقي إلا بعد وفاته، فغنت له عشر قصائد كانت كلها من تلحين العظيم رياض السنباطى.
تقول ثومة: كنت أضع كل دواوين شوقي بجواري على الفراش، وكنت لا أكاد اسمع عن مسرحية له إلا وأذهب لأشاهدها ولست أنسى على وجه الخصوص "مجنون ليلى" و"كليوباترا".
حمامة الأيكِ من الشجو طارحها
ومن وراء الدجى بالشوق ناجاها
القت إلى الليل جيدا نافرا ورمت
إليه اذنا وحارت فيه عيناها
وعادها الشوق للأحباب فانبعثت.
تبكي وتهتف أحيانا بشكواها
يا جارة الأيك أيام الهوى ذهبت.
كالحلم آهًا لأيام الهوى آها