الحديث عن عميد الأدب العربى طه حسين يحتاج إلى مجلدات ومجلدات، حتى نستطيع وصف ما قدمه للثقافة العربية والتعليم فى شتى ربوعه، ولكننا نقف عند مصطلح «المثقف العضوي» والذي أطلقه المفكر الإيطالى أنطونيو جرامشي، فإذا حاولت توصيف طه حسين فستجد أنه المثقف الذي امتلك من العلم والمعرفة والوعى والفكر المتقدم والاستبصار، فقد كان سابقًا لعصره، صاحب رؤية استشرافية فى كل مجال خاض فيه، فهو يمثل حالة متقدمة من الوعى فى إطار المجتمع الذى عاش فيه، حمل على عاتقه مسئولية تاريخية، وعرف دوره فى الحراك الثقافى بوعى شديد، ساهم من خلال أبحاثه ودراساته ومقالاته فى تجديد الفكر، كان يعى جيدًا دوره كمثقف عضوي، فلم يكن منكفئًا على ذاته، بل عمل داخل المجتمع بما يحمله من عادات ومعتقدات ومعارف، كان يرى التعليم بأنه كالماء والهواء وهو الوسيلة لتقدم الأمم ورقيها.
كان "حسين" ضمير وطنه الحى الذى ينبع من النهضة الوطنية، فقد كان يرى أنه إذا كان المجتمع يريد التقدم فلابد من محاربة الجهل وانغلاق العقل وأن تبقى جسور التواصل مفتوحة بينه وبين هذا المجتمع وثقافاته.
ونجده يقول فى مقدمة كتابه «أدب ونقد»: «يقال إن التفكير ظاهرة اجتماعية لا فردية، بمعنى أن الفرد لا يفكر ولا يقدر ولا يروى إلا من حيث هو عضو من أعضاء الجماعة التى يعيش فيها، والتى يستحضرها فى نفسه استحضارًا ملحوظًا أو غير ملحوظ حيث يفكر أو يقدر أو يروي»، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نؤكد من خلال أفكاره وأطروحاته النقدية بأنه كان مثقفًا لديه من البصيرة والوعى الذى يحقق النهضة المجتمعية للشعوب وهو ما يتفق تماما مع "جرامشي" فى تعريفه للمثقف العضوي، فنجد أن طه حسين كان يرى أن الإنسان أو المثقف لا يمكن أن يعيش بمعزل عن مجتمعه وإلا أصبح هذا الإنسان مجرد أسطورة من الأساطير لم يوجد ولم يعرف.
ولفتح جوانب أخرى من حياه عميد الأدب العربي، ودوره الثقافى والفكرى الفاعل فى المجتمع، كان لـ«البوابة» حوارًا مع مجموعة من النقاد حول طه حسين وأعماله الفكرية.
جرجس شكري: مجدد الثقافة العربية المدافع الشرس عن العقلانية وأصبحت أقرأ التراث العربى بعيونه
فى إطار الاحتفاء بالذكرى الخمسين على رحيل عميد الأدب العربي، والتى تحل فى أكتوبر من هذا العام، أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة، برئاسة المخرج هشام عطوة، عددًا من مؤلفات طه حسين والتى بلغت عشرين إصدارًا، وسوف تتابع الإصدارات على مدار العام، وكتب مقدمة الإصدارات الكاتب والناقد جرجس شكري، وتناول فيها الرصيد الأدبى والنقدى لعميد الأدب العربي، وإنجازه العلمى منذ أن كان طالبًا للعلم بالأزهر الشريف، إلى مسيرته الأكاديمية بكلية الآداب، ليترقى لأعلى مناصب الكلية ويقتنص منصب العميد، ويلقب بعدها بعميد الأدب العربي.
ويقول "شكري" فى مقدمة الإصدارات: «كرس طه حسين " ١٩٨٩ - ١٩٧٣" حياته لمناقشة المسكوت عنه فى الأدب العربي، وأيضًا فى المجتمع المصري، وكان بحق مجدد الثقافة العربية ومدافعًا شرسًا عن العقلانية، رفع شعار إعمال العقل منذ أن وطأت أقدامه قاعة الدرس، سواء فى أروقة الأزهر أو فى مدرجات السوربون.
دراسة موضوعية وغير منحازة
"لقد آمن طه حسين بالدراسة الموضوعية وغير المنحازة لتراث الأجداد فى مرحلة كان السواد الأعظم يفضِّل النقل على إعمال العقل، وطالب بالتخلى عن الإيمان بما هو راسخ وثابت؛ إذ جاء كتابه "الشعر الجاهلي" عام ١٩٢٦ عاصفة مدوية زلزلت أركان المجتمع المصري، وقاد صاحبه إلى ساحة المحاكم، ليحطم النزعة المحافظة والجمود الذى كان يتعامل به الجميع مع تراث الأجداد، واختار حرية الفكر، وحمل على عاتقه الحفاظ على هوية الثقافة المصرية وترسيخها لدى المصريين، وكما قاد رفاعة الطهطاوى قطار النهضة من باريس إلى القاهرة فى مطلع القرن التاسع عشر، كشف طه حسين للقارئ فى مطلع القرن العشرين عن أسرار الثقافة اليونانية والرومانية القديمة، ووضع أمامه فى فترة مبكرة كنوز هذه الثقافة، فحين أوفدته الجامعة المصرية إلى باريس لإكمال دراسته، ذهب هناك ليس فقط لينال درجة علمية، بل لينهل من الثقافة الغربية والعلوم الحديثة وكلاسيكيات الأدب الغربي، ونال أيضًا درجة الدكتوراه حول أطروحته التى تناولت نظرية علم اجتماع التاريخ عند ابن خلدون».
ويتابع جرجس شكرى فى مقدمته: «لم يكن طه حسين ناقدًا كبيرًا وأكاديميًا نال أرفع الدرجات العلمية فى مرحلة مبكرة، وأثار الجدل بأفكاره المستنيرة، بل كان ناقدًا ومفكرًا وروائيًا وكاتبًا اجتماعيًا، ومترجمًا وفيلسوفًا ومؤرخًا، نعم كان كل هؤلاء، فحين أتذكر مؤلفاته التى تعرفتُ عليها فى سن مبكرة "الأيام، حديث الأربعاء، الفتنة الكبرى، الأدب الجاهلي، نظام الأثينيين، ألوان، دعاء الكروان، أحلام شهر زاد، أوديب لسوفوكليس، وغيرها"، لن أبالغ إذا قلت إنه كل هؤلاء فى رجل واحد، حمل على عاتقه تجديد الثقافة العربية، وخاض فى سبيل هذه الفكرة عشرات المعارك الضارية، وقد أسعدنى الحظ بقراءة ما تيسر لى من مؤلفاته فى سن مبكرة، وخاصة كتاب الأدب الجاهلي، حيث كان فى ذلك الوقت أو بالنسبة لى كتاب الشعر الجاهلى من الصعب الحصول عليه».
قراءة التراث العربى دون تسليم أو قداسة
«عرفت من طه حسين وتعلمت كيف أقرأ التراث العربى دون تسليم أو قداسة، وبعد سنوات كنت وما زلت أسأل نفسى ماذا لو لم أقرأ طه حسين، بل ماذا لو لم تحظ الثقافة العربية بهذا المبدع الاستثنائي؟ دون شك كانت سوف تتأخر وتعانى كثيرًا! ما زلت أذكر الصدمة الأولى حين قرأت ما كتبه عن مجنون ليلى فى كتاب "حديث الأربعاء"، والذى شكك فى وجوده من الأصل وقال "أزعم أن قيس بن الملوح إنما هو شخص من هؤلاء الأشخاص الخياليين الذين تخترعهم الشعوب لتمثيل فكرة خاصة، إنما كان شخصًا اخترعه نفر من الرواة، وأصحاب القصص ليلهوا به الناس أو ليرضوا به حاجة أدبية أو خلقية "وراح يحلل الروايات وآراء النقاد القدامى فى احتمالية عدم وجوده من الأصل، وكانت تلك الصدمة الأولى التى ما زلت أتذكر تأثيرها حتى الآن، وكان عميد الأدب العربى قد نشر هذه الآراء عام ١٩٢٤ فى سلسلة مقالات قبل أن تصدر فى كتاب، لقد رأيت من خلال عيون طه حسين الأدب العربى فى بداية الطريق، وكنت دائما ما أتخيله يقتحم غابة كثيفة قوامها التراث العربى بكل تجلياته شعرًا ونثرًا وأفكارًا شائكة، يجلس فى مقدمة الغابة وإلى جواره أوجست كونت وديكارت، بينما تراجع الجميع إلى الخلف؛ حيث سيتغلب الجدل على التناقض فى غابة التراث».
«فى كتاب "ألوان" الذى صدر عام ١٩٥٢، وبالتحديد البحث الأول "الأدب العربى بين أمسه وغده"، ناقش سلطة الموروث الشعري، وفحوى الفكرة التى طرحها، هى أن الأدب العربى يتكون من عنصرين: داخلي، وخارجي، داخلى من نفسه ومن طبيعة الأمة التى أنتجته، وخارجى من الشعوب التى اتصلت بالعرب أو اتصل العرب بها، والعنصر الأول يقول إن لأدبنا العربى طابعه التقليدى القديم، ولم يخلص منه ولن يستطيع إلى آخر الدهر، ويؤكد بشكل قاطع أن مذهبنا فى تصوير الأشياء سيظل عند طائفة من الأصول التقليدية لا سبيل إلى التحول عنها؛ لأن هذا التحول يعنى قتلًا لهذا الأدب وقطعًا للصلة بينه وبين العصر الحديث، وانحرافًا به عن طريق الحياة المتصلة التى تسلكها الآداب الحية، إلى طريق الحياة المنفصلة، فطبيعة اللغة العربية اقتضت ثبات بعض الأصول مثل اللغة العربية الفصحى وعمود الشعر، ويدلل طه حسين على هذا بشاعرين وضعهما أدونيس فيما بعد فى أطروحته "الثابت والمتحول" على رأس قائمة المجددين والحداثيين "أبو تمام وأبو نواس" كلاهما يرى طه حسين ومعهم المتنبى وغيرهم قد همّوا أن يجددوا وجددوا بالفعل فى كثير من الأشياء، لكنهم احتفظوا بفصاحة اللغة وجزالتها، وبالأوزان القديمة، فلما جددوا لم يبتكروا إلا أوزانًا يمكن أن ترد إلى الأوزان القديمة، بل ويسخر من تجديد أبى نواس الذى عاب على القدماء ذكر الأطلال والرسوم، وحنّ حين حاول التجديد إلى مغانى اللهو والعبث، كما كان الأعرابى القديم يحن إلى ديار هند وأسماء، وقد أنكر أبو نواس وغيره وصف الطرق والإبل عند القدماء، لكنه وصف الطرق والإبل! ورأى طه حسين أنهم حين حاولوا الخروج تكلّفوا وبالغوا، بل ذهب إلى أبعد من الأمور الفنية وقال إن هذه الأصول والتقاليد استطاعت أن تغلب الحوادث والخطوب وألوان التطور والانقلاب وتسيطر على شعر المعاصرين، وأكد أن الشعراء لابد أن يستبقوا هذه الأصول حين يحاولون التجديد ولا يبعدون عنها إلا بمقدار، وبعد كتاب ألوان كنت أقرأ التراث العربي، بعيون طه حسين»
ويواصل جرجس شكري: «قرأ طه حسين التراث العربى دون أن يستعين بالنقاد القدامى، دون أن يستعين بالقلقشندى وأبى هلال العسكرى وابن جنى وغيرهم، بل اختلف معهم جميعا وكان يبعدهم إلى الجانب الآخر، كان يقرأ إنتاج الشعراء لا ما كُتب عنهم، وكان طه حسين أيضًا حازمًا فى قراءة النثر العربى وقال عنه: رغم أنه استحدث بعد الإسلام إلا أنه أيضا اتخذ أصولا تقليدية تقارب أصول الشعر، فحرص أيضا على اللغة المعربة والفصاحة والجزالة، ويخلص إلى أن العناصر التقليدية فى أدبنا شديدة القوة هى التى ضمنت بقاءه قرونا طويلة، أما عناصر التجديد أو المكون الآخر هى التى منعت الأدب العربى من الجمود ولاءمت بينه وبين العصور والبيئات وعصمته من العقم والإعدام، ويستعين بأوجست كونت ويقرأ الأدب العربى كظاهرة اجتماعية، وكغيره من الآداب الحية مكون من هذين العنصرين الذى كان أوجست كونت يسمى أحدهما ثباتا واستقرارا وثانيهما تحولًا وانتقالًا، ويرى أن التوازن لم ينقطع بين العنصرين، وهذا ما يمتاز به الأدب العربى عن غيره. ولا ينكر طه حسين تفوق عنصر على صاحبه بين حين وحين فى القوة».
الشعر الجاهلي
ويضيف: «شعرت وأنا أقرأ كتاب "الشعر الجاهلي" فى نسخته الأصلية أن طه حسين قرأ الشعر العربي، قرأ دلالة الألفاظ والمعاني، قرأ الشعر وغيره، بعد عقود قرأ الأحداث التاريخية والسياسية إلى جانب قراءة الشعر، وقام بنقد الفكر العربي، رأى طه حسين أن الأدب العربى لا يستمد حياته من القوة الذاتية كما الأدب اليونانى القديم الذى ظل حيًا بنفسه لا يستمد حياته من أمة حية تقويه، فى حين أن الأدب العربى ما زال حيًا يستمد قوته من الأجيال التى تزال حية ترعاه، تمنحه وتأخذ منه وهى تعيش عليه وتعيش له وتعيش به كشأنها مع حياتها المادية الأرض والجبال والأنهار، وظل صوت طه حسين يصدح قويًا: الأدب العربى قديم جدًا وحديث جدًا، اتصل قديمه بحديثه اتصالا مستقيما لا انقطاع فيه ولا التواء، ففيه خصائص الآداب القديمة وخصائص الآداب الحديثة، وفيه ما يمكن استخلاص حديثه من قديمه.
يسرى عبد الله: طه حسين المفكر التنويرى الأبرز مصريًا وعربيًا فى القرن العشرين
يقول الناقد الدكتور يسرى عبد الله، أستاذ النقد بكلية الآداب جامعة حلوان، فى إطار الاحتفاء بمرور خمسين عامًا على وفاة طه حسين، إن الأثر الفاعل له فى حياتنا الثقافية لا يزال قائما، يتجدد بتجدد قراءة المنجز الفكرى والإبداعى للمفكر التنويرى الأبرز مصريا وعربيا فى القرن العشرين.
ويتابع أستاذ النقد: «ولذا فإننا لسنا أمام محض استعادة لأفكار طه حسين المتجددة قدر ما نحن أمام حالة من التلقى الخلاق، المشتبك مع تصوراته الناضجة ورؤاه الحرة المستنيرة.
ومن ثم تصبح الاستعادة الحقيقية لطه حسين متمثلة فى إعادة قراءته من جديد وفق سياقه السياسى والاجتماعى من جهة، ووفق معطيات لحظتنا الراهنة فى الآن وهنا من جهة ثانية».
ويواصل يسرى عبد الله: «وتختزل التصورات الفكرية لطه حسين تاريخا من الأفكار، وتحمل الطبيعة المتجددة للمفكر التنويرى وعيا بقيم العقل النقدى الطليعى حين يسائل واقعه وتراثه، ويسعى صوب غد أفضل لناسه وأمته، بحيث يمكنك أن تكتشف روح مصر وطبقاتها الحضارية من خلال طه حسين، فالنتاج المعرفى والإبداعى الذى خلفه عميد الأدب العربى يعد تعبيرا جماليا رفيعا عن قيم التقدم والاستنارة والحرية.
ففى العام ١٩٢٦، أصدر طه حسين كتابه اللافت «فى الشعر الجاهلي»، وهاج وماج التيار الديني، الذى كان يتخفى خلف عباءة المحافظة والتقليد وقتها، وصعد الأمر للبرلمان المصري، الذى كان حاويا جملة من التيارات السياسية المتصارعة، وهوجم طه حسين هجوما شديدا ودعا البعض إلى فصله من الجامعة، وقاد التيار الظلامى الحملة بشراسة ضد أحد أهم رموز التنوير فى الثقافة العربية، ظلت الواقعة المخزية حاضرة فى وعى طه حسين، ربما لم يخفف من آثارها القاسية سوى المذكرة التى قدمها وكيل النائب العام السيد محمد نور التى حوت دفاعا رصينا عن طه حسين والحرية الفكرية معا.
ورغم صدور الكتاب فيما بعد تحت مسمى جديد «فى الأدب الجاهلي»، فإن جوهر الفكرة التى أراد طه حسين تضمينها فى مؤلفه ظل حاضرا، كان التيار الدينى يسعى صوب توطيد أركانه فى المجتمع آنذاك، وكان صنيع طه حسين يفضى إلى خلخلة المستقر من الأفكار الجاهزة، كان المناخ الليبرالى فى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى كفيلا بأن يرهن مفكر بحجم أحمد لطفى السيد استقالته من إدارة الجامعة بعدم تعرض طه حسين لأى عسف.
تواصلت معركة طه حسين مع التيارات الظلامية، ولم تهدأ الاتهامات ضده حتى الآن، وراجت أباطيل كاذبة بحق الرجل الذى نذر نفسه للدفاع عن حرية التفكير، ولم يفت فى عضد المفكر الرائد كل هذه الخزعبلات، كان فى القلب غصة ولا شك، لكنه مضى مواصلا طريقه».
مستقبل الثقافة فى مصر
وعن كتاب "مستقبل الثقافة فى مصر" وأثره الممتد، يقول الدكتور يسرى عبد الله: «عقب معاهدة ١٩٣٦ بين مصر وبريطانيا، جاء كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر»، مشيرا إلى الجذر الحضارى للأمة المصرية، بانتمائها إلى الحضارة المصرية القديمة التى خرجت من عباءتها، مع الحضارة اليونانية القديمة وحضارة الهند، حضارات الغرب والشرق، ونبه إلى الانتماء المصرى لثقافة البحر المتوسط، ومن ثم فالصلة بين مصر وأوروبا وثيقة للغاية، ولذا كان البناء الجديد الذى يأتى عقب الاستقلال النسبى لمصر عن بريطانيا يجب أن ينهض من وجهة نظره على قيم الحداثة لإمكانية اللحاق بالعالم المتقدم، كان طه حسين أيضا مفكرا إجرائيا، لا يمنح لقرائه تصورات نظرية محضة فحسب، ومن ثم نبه إلى خطورة التعليم الديني، وحذر من ازدواجية التعليم لدينا ما بين مدنى وديني، وربما تكمن الأهمية الحقيقية لكتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» فى كونه تأسيسا لفلسفة تقدمية تحوى أفكارا مؤسسة عن التعليم وإمكانية تطويره وعصرنته».
المشروع الفكرى
حين تقرأ بتمعن المشروع الفكرى والإبداعى لطه حسين، تشعر وكأنه كان معنيا بالتأثير الفعلى فى حياة أمته، فنصوصه الإبداعية بدت تأسيسا ملهما للسرد فى بواكير علاقة العرب بالرواية الحديثة، ونصوصه المكتملة مثل «دعاء الكروان»، و«الحب الضائع» تمثل نقلة نوعية فى مسار السردية العربية، وأعماله النقدية وفى المتن منها «حديث الأربعاء»، و«من أدبنا المعاصر» بدت زوايا نظر عميقة للنص العربى قديمه وحديثه، وأحيانا تأسيسا مبكرا للغاية لطروحات فى نقد النقد، أو درسا تطبيقيا رفيعا فى الأدب المقارن من زاوية التأثير والتأثر بين نصين ينتميان لثقافتين وأدبين مختلفين. وفى مناخات العتامة والتطرف الدينى تصبح استعادة طه حسين واجبة، ويصبح استكمال ما بدأه أمرا لا غنى عنه فى استئناف مشروع التحديث المصرى والعربى من جهة، وتكريس فكرة الدفاع عن العقلانية بوصفها جوهر التنوير من جهة ثانية.
إن طه حسين يعد تعبيرا حقيقيا عن روح مصر البهية، التى لم تزل قادرة على الفعل والحلم والمغامرة، بحيث بدت حيوية العميد جزءا من حيوية مصر ووهجها الذى لن ينقطع.
فى رحاب جامعة القاهرة
محمد عفيفي: طه حسين كان حريصًا على أن تكون الجامعة هى مصدر الفكر فى المجتمع لم يكن عبدا للمنصب بل تركه عندما اصطدم مع مبادئه
قال الدكتور محمد عفيفى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، إن طه حسين هو أنبغ تلاميذ الدكتور أحمد لطفى السيد، وبالتالى اكتسب "حسين" منه فكرة أن الجامعة ليست مجرد تعليم، وإنما هى تصدير الفكر فى المجتمع نفسه، فطه حسين لم يكن مجرد أستاذ جامعى قاصرًا على الجامعة، لكنه كان حريصًا على ربط الجامعة بالمجتمع، وحريص أيضًا على تغيير حالة المجتمع فكريًا".
وأكد عفيفى أن طه حسين لم يكن مفتعلًا للمعارك – كما كان يشاع عنه- حيث إن طه حسين كان يريد وهو ورفاقه على إثارة معارك فكرية كنوع من تحفيز المجتمع، ومن يرى كتاباته فى الشعر الجاهلى ومستقبل الثقافة فى مصر، فكان مشروعه الفكرى ينصب فى مصلحة الثقافة المصرية، والتى كان يرى أن تقدم مصر لن يكون بالصراعات السياسية أو الحزبية وإنما تقدمها الحقيقى سيكون عن طريق التعليم والثقافة.
لافتًا إلى أن طه حسين بدا فى تحقيق أفكاره حول التقدم المصرى من خلال معاركه الفكرية، ثم إنجاح مشروعه التربوى حين تقلد منصب وزير المعارف، وأكبر دليل على هذا النجاح هو أن مصر وبرغم مرور ٥٠ عامًا على رحيلة مازالت مصر تحتفى به وتسترجع ذكراه من خلال إعادة طباعة أعماله الفكرية والأدبية لا سيما الإصدارات التى تعيد طرح ما أثاره من معارك فكرية.
طه حسين باحثًا متجددًا
وأضح أستاذ التاريخ الحديث إلى أن طه حسين كان شخصية متمردة بطبعه والتى تجسدت فى عدم قبوله للأشياء الثابتة وكان دائما فى حالة بحث دائم عمَّا هو جديد بشكل دائم، سواء فى الأفكار أو المناهج العلمية، وكان يرى أنه لا بد من التغيير، سواء فى المناهج العلمية أو الافكار التى يتم طرحها، ومن هنا نجد أن عمله كأستاذ فى التاريخ، وإنشاء أقسام بكلية الآداب مثل قسم اللاتينى واليونانى والتى كانت تهدف إلى إنعاش الدراسات والترجمات، ويمكن القول بأن طه حسين كان أقرب للدراسات البينية، وكان يرى أنه لابد وأن تتسم كلية الآداب بالانفتاح على بعضها البعض من خلال أقسامها وتخصصاتها المختلفة".
متابعًا أن أهم ما يميز طه حسين هو فكرة إعمال العقل، وأن كل شيء يجب أن يتم دراسته بالعقل، وبالتالى أن العقل سيعمل على إخراج كل ما هو جديد، فى ظل عدم تقبل المسلمات باعتبارها حقائق ويجب العمل بشكل دائم على البحث، وهو ما نستطيع أن نقول أنه يحسب بشكل كبير لطه حسين، فهو قد استطاع تحريك المجتمع ككل فى ظل بنية علمية قائمة على البحث العلمي، كما أنه لعب دورًا كبيرًا فى تأسيس جامعة الإسكندرية، وتأسيس جامعة أسيوط، وكان يهتم بالبعثات العلمية للخارج، والتى اهتم بها كثيرًا، فقد كان يرى أن تلك البعثات تعمل على تجديد دماء أعضاء هيئة التدريس، وهو الأمر الذى يعمل على فتح أبواب جديدة للتلاميذ واتساع أفق مداركهم، وهو عكس ما يحدث اليوم إذ نجد أن بعض الأساتذة قد يغلقون الأبواب أمام تلاميذهم على عكس ما قام به طه حسين فقد كان يرى أن امتداده كأستاذ جامعى هو من خلال تلاميذه، الذين يحملون أفكاره للأجيال الجديدة، ونجد مثالا على ذلك ما تركه طه حسين من تلاميذ مثل لويش عوض وسهير القلماوي، والدكتور عبد اللطيف أحمد على وغيرهم الكثير ممن تتلمذوا على يد طه حسين.
أبو الفضل بدران: لم يعزله العمل الأكاديمى عن المجتمع
قال الدكتور محمد أبو الفضل بدران، الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة، إن ما يلفت النظر فى شخصية الدكتور طه حسين جمْعُه بين الأدب والنقد، وتحريك المياه الراكدة فيهما بمناهج جديدة، أثرت البحث النقدي، وهو الأكاديمى الذى لم يترك العمل الأكاديمى يعزله عن المجتمع، بل اتصل بالمجتمع كاتبا ومصلحا ومعلما وناشرا العلم كالماء والهواء فى وقت كان الجهل مسيطرا على جموع الشعب، ولم يكن عبدا للمنصب، بل تركه عندما اصطدم مع مبادئه وحاول أن يغير المجتمع.
وتابع "بدران": "كانت صداقته مع أبى العلاء المعرى مثمرة علميا، وتأثر به فى شخصه المعاند الزاهد، الذى لا يشتريه أحد بمنصب أو مال، رأى فى "المعري" العصامى الذى ثقف نفسه وجمع بين الشعر والنقد، ولذا جمع طه حسين بين السرد والنقد.
وأكد أن طه حسين كان له محطات كثيرة فى التعليم والتثقيف والأدب وقيادة المجتمع ثقافيا، وقد أفلح فى كل ما سبق.
ويضيف: من يقرأ كتاب "مستقبل الثقافة فى مصر" يجد روشتة علاج لآفات التعليم والثقافة فى مصر، وكيفية النهوض بهما، وقد حاول طه حسين أن يستنهض مصر وأن ينقل لها ما عايشه فى فرنسا، وربط بين التعليم وتطور الأمم، وركز على فكرة العدل وأهميتها للمجتمع، وعلاقة الحاكم بالشعب، وطرح فكرة المساواة بين أفراد الشعب، ويجب أن ننظر إلى زمنية هذا الطرح، وكيف كان سباقا لعصره وشجاعا لا يخاف الطبقية التى سيطرت على المجتمع آنذاك.
كما ركز طه حسين على حقوق المعلم والثقة فيه، وضرورة العلاقة بينه وتلاميذه، ولكن لم يتحقق ما دعا إليه وهو إنشاء مجلس أعلى للتعليم يتناول فروع التعليم المدرسى والجامعى معا، وهى فكرة رائدة، ما أحوجنا إلى هذا المجلس الذى ينسق ويبنى ويخطط. واختتم: لقد كان طه حسين رائدا، وقاسيًا فى سبيل ذلك كثيرا.
إسلام وهبان: كان عالمًا ومثقفًا ومفكرًا وإنسانًا من طراز فريد
تحدث الكاتب إسلام وهبان عن كتاب مستقبل الثقافة فى مصر لطه حسين والذى اعتبره أحد أهم وأخطر الأعمال التى كتبها عميد الأدب العربي، طوال تاريخه الحافل بالإسهامات الهامة التى أثرت المكتبة العربية.
وتابع وهبان:"فالكتاب رغم صغر حجمه نسبيا مقارنة بأعمال أخرى قدمها "حسين" إلا أنه من الكتب المدهشة التى لا زالت قابلة للمناقشة والتحليل والفهم لواقع الثقافة المصرية، وأبرز الأزمات التى تعانى منها الحياة الثقافية والتعليم فى مصر".
مضيفًا: "تأثرت كثيرا بذلك الكتاب الذى كشف لى الكثير حول أسباب تشتت مجتمعنا وكيف وصلنا إلى ما نحن عليه، والغريب أن كثير من الحلول التى ينادى بها الكثير الآن، طرحها د. طه حسين منذ ما يزيد على ٨٠ عاما، للأسف يقتصر البعض موضوعات هذا الكتاب فى أزمات التعليم وكيفية إصلاحها، فى حين أن الكتاب يتطرق لمفاهيم هامة عديدة مثل الهوية والقومية والثقافة وتأثير السينما على ثقافتنا وأسباب تأخرنا عن العالم وغيرها من الموضوعات الهامة والحيوية.
متابعًا: "بخلاف كتاب "مستقبل الثقافة فى مصر" فقد تأثرت على المستوى الشخصى بكتاب "الأيام" والتى تعرفت فيها على سيرة طه حسين ليس فقط كأحد رموز الثقافة المصرية والعربية، بل كأحد رموز الانسانية فى العالم.
وبخلاف الكثيرين فقد تعرفت على سيرة طه حسين من خلال مسلسل "الأيام" الذى قدمه الفنان الراحل أحمد زكي، قبل قراءتي للكتاب نفسه، وكنت متأثرا للغاية بأحداثه وتفاصيل معاناته وكفاحه فى الحياة، ولكن بعد دراسة الكتاب فى المرحلة الثانوية، تعجبت للغاية من اختلاف الصورة الإنسانية الرائعة التى قدمت فى المسلسل، بالنسخة القاتمة التى ندرسها، وهو ما دفعنى للبحث عن سيرة طه حسين بعيدا عن المناهج التعليمية، لأجد عالما ومثقفا ومفكرا وإنسانا من طراز فريد.