الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

العميد | 50 عامًا على رحيل «البصير»

طه حسين
طه حسين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

جذبنى الطفل الصغير «طه»، وكنت ما زلت صغيرة، انتظر مثل غيرى مسلسل «الأيام»، ليحدث بى ما يشاء، يغيرنى مع كل حلقة؛ كيف تعلقت بسورة «يَسين» وأمنت بقدرتها على الشفاء، كيف ترسخ بداخلى هذا الهوس بالجنيات والعفاريت، التى تخرج من ترعة القرية، الظلمة التى أخذت تختفى يوما بعد يوم من عين «طه» الصغير ليعاير فيما بعد بـ «اقرأ يا أعمى»، هذا الشيخ ذو الصوت الخشن القاسي، كيف تجرد من إنسانيته فى لحظة غضب ليحرج طفلًا صغيرًا ويصفه بـ «اعمى البصر»، وأجدنى أقول.. بل إنك أعمى البصيرة. 
ويخرج الصغير من هذا الامتحان الصعب التى تكاد أن تخرج الكلمات من فمه بصوت مختنق «أنا مش أعمى يا هو.. يا خلق يا عامينين.. أنا قلبى مفيش أخوه» ليضيء «طه» بعدها حياتنا بالعلم والنور.. يخرجنا من ظلمة الجهل الى نور العلم والحقيقة هذا الضوء الذى يشع من أعيننا كلما قرأنا كتابا أو تعرفنا على علم جديد، أو بحثنا داخل المسكوت عنه مثله. 
بدأت حياته من ظلمة مقبضة الى نور يسطع فى سماء الكون.
بداية التكوين.. أربعة أعوام فى النور 
قُدِّرَ ﻟ «طه حسين» أن تنطفئ مصابيح نظره، وهو -لا زال- فى سن صغيرة، فلم يكن قد بلغ عامه الرابع، ولم تتسع مداركه على كل ألوان الحياة، لكن قلبه كان نبراسًا يضيء لمن حوله، إنه ذلك الطفل الذى كان يهوى سماع صوت الشاعر وهو يتغنى بسير الأبطال «الزناتي.. دياب.. أبو زيد» كان يعشق صحبتهم وسماع أخبارهم، كما كان يهوى صوت الفتيات، وهن ينشدن «الله يا ليل الله» ليعلن صوتهن العذب عن بزوغ فجر اليوم الجديد.
وُلِد «طه حسين على سلامة» فى نوفمبر عام ١٨٨٩ بقرية «الكيلو» القريبة من مغاغة إحدى مدن محافظة المنيا بصعيد مصر، فى هذه القرية التى كانت يشوبها «ثالوث الخطر» وهم «الجهل، والفقر، والمرض» -كحال قرى مصر - ذاك الثالوث الذى ظل «طه» يحاربه طوال حياته، ولم لا فقد أصيب بالمرض صغيرًا، وتذوق مرارة الفقر، ونال من الجهل ما جعله يفقد بصره، ففى سن صغيره أصيب الفتى بمرض الرمد وبلا تردد أتوا إليه بحلاق الصحة الذى أعطاه دواءً بالخطأ فقد على إثره نور عينه. 
ففى يوم -لا يحب أن يتذكره «طه»- حينما كان يستمع الطفل الصغير إلى الشاعر وهو يتغنى بسيرة الأبطال، جاءت إليه أخته تحمله رغمًا عنه، وتضعه على حجر أمه لتقوم الأخرى بوضع بعض قطرات من السائل الحارق، الذى يبرحه ألمًا، لتظلم بعدها الحياة فى عينيه، وامتلكه اليأس لدرجة أنه حاول الانتحار، ذات مرة، ليتحول بعدها إلى شخصية استثنائية تغير وجه التاريخ الثقافى والأدبى ليلقب بعدها بـ «العميد». 
خطوات وراء السياج 
ظل الطفل الصغير يتسلل خلف السياح التى أحاطت به، سياج ليست كالسياج فإنها اليوم ليست مصنوعة من عيدان القصب الجاف، أو الخشب أو الحديد، وإنما سياج أخرى صنعتها ظُلمة العين، ليخطوا فوق السياج والحدود ويسير فى طريق من العلم والنور، فبين شغفه وأفكاره وتمرده الدائم على كل ما هو سائد ومتعارف عليه، سواء فى الأبحاث والعلوم والتاريخ والثقافة ويقابل صوته الآخر هو صوت سوزان من وراء البحر ليحيا سويًّا حياة غير الحياة. 
 
«وأسيِّرُ العمىَ فى طريق لم يعرفوها …فى مسالك لم يدروها أمشيهم …أجعل الظلمة أمامهم نورًا»
«معك» هكذا تحدثت سوزان طه حسين فى مذاكراتها 
فى هذا الكتاب «معك» تغرد سوزان طه حسين بصوت فرنسى رقيق عن حكاية ٦٠ عامًا جمعتهما سويًّا زوجة وصديقة وأم أبنائه حكاية الرفض والقبول سنواته الأولى فى باريس، ينهم من العلم ما يشاء ويصاحبه صوتها الدافئ الذى يعيد إليه آماله مع لحظات القلق والخوف. 
فالكتاب بالإضافة إلى أنه رسالة حب لأيام أخرى لطه حسين وحياته هذا الرجل الاستثنائى الذى أحبته وسكنت إليه ودفنت فى أرض مولده، هو أيضًا سيرة مختلفة عن الشخصيات العلمية والسياسية سواء فى مصر أو فى البلدان العربية والغربية الذين الْتَقاهم طه حسين طوال حياته. 
«معك» من فرنسا إلى مصر «قصة حب خارقة» سوزان وطه حسين (١٩١٥-١٩٧٣) تقديم أمينة طه حسين (أوكادا)، الهوامش والتذييل، زينا ويجان وبرونو رونفار، وترجمة بدر الدين عرودكي، وإصدار مؤسسة هنداوى 
«إننا لا نحيا لنكون سعداء» 
تأخذنا سوزان فى بداية كتابها «معك» بعبارة غير معتادة لأحد مقولات طه حسين «إننا لا نحيا لنكون سعداء» كانت تلك العبارة التى قالها طه حسين فى عام ١٩٤٣، فى لحظات يأسهم أو على حد تعبيرها: «– لقد كنا على حافة اليأس- ورحتُ أفكِّر: «لا، إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولا حتى لنجعل الآخرين سعداء»، فى هذه السطور التى افتتحت بها سوزان طه حسين كتابها «معك» فاختارت معك وكأنها رأت الدنيا بعين طه حسين وبعد رحيله لم تعد تعرف للدنيا طعم، فقد صاحبها حبيبها ورفيق دربها وحياتها حتى بعد الرحيل فكانت ليست مجرد ذكرى تأتى إلى خاطرها بين الحين والآخر وإنما كان يتجول معها فى كل الأماكن التى قاموا بزيارتها سويًّا، حتى الموسيقى فقد منحها "حسين" السعادة التى كان يقول عنها إننا لا نحيا لنكون سعداء" 
وتقول سوزان له: "فلقد منحتَ الفرحَ، وبذلتَ ما فى نفسكَ من الشجاعة والإيمان والأمل. كنتَ تعرفُ تمامًا أنَّهُ لا وجود لهذه السعادة على الأرض، وأنَّكَ أساسًا، بما تمتازُ به من زهد النفوس العظيمة، لم تكن تبحثُ عنها، فهل يُحظَر عليَّ الأملُ بأن تكون هذه السعادة قد مُنِحَت لكَ الآن؟". 
وتتابع فى سردها حول علاقتها معه فيما يشبه اليوميات تستعيد فى كل يوم حكاياتهما سويًّا وأسفارهم وموسيقاهم وأيامهم وأحاديثه معها وتعود بنا فى شريط من الزمان عن أول يوم قال لها فيها "حسين" وصح بحبه المكنون بوجدانه وتقول:"وذات يوم، يقول لي: «اغفرى لي، لا بدَّ من أن أقول لكِ ذلك؛ فأنا أحبكِ.» وصرختُ، وقد أذهلتنى المفاجأة، بفظاظة: «ولكنى لا أحبكَ!» كنت أعنى الحبَّ بين الرجل والمرأة ولا شك. فقال بحزن: «آه، إننى أعرف ذلك جيدًا، وأعرف جيدًا كذلك أنه مستحيل.».
جنون الحب 
وتتابع:«ويمضى زَمَنٌ، ثمَّ يأتى يوم آخر أقول فيه لأهلى إننى أريد الزواج من هذا الشاب. وكان ما كنتُ أنتظره من ردِّ الفعل: «كيف؟! مِن أجنبي؟! وأعمى؟! وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شكَّ أنكِ جُنِنْتِ تمامًا!»
ربما كان الأمر جنونًا، لكنى كنتُ قد اخترتُ حياة رائعة. اخترت! من يدري؟ لقد قالت لى صديقة عزيزة ذات يوم: «لقد كان عليكِ أن تضطلعى بهذه الرسالة» وصديقة أخرى تقول لى منذ زمن ليس ببعيد: «أتذكرين يا ماري؟ لقد مُلِئَتْ حياتكِ إلى أقصى حدٍّ» نعم؛ لقد مُلِئَتْ حياتى إلى أقصى حدٍّ. كان قد قال لي: «لعل ما بيننا يَفُوق الحبَّ» فيما يتعلَّق بي، كان هناك هذا الشيء الرائع: الفخر، واليقين من أنه ليس ثمة ما يدعو للخجل، ومن أنه ليس هناك على الإطلاق أية فكرة مُرِيبة أو بشعة أو منحطة يمكن أن تأتى لتحقر أو لتَثْلِمَ الكائن الذى أقاسمه حياته. آه! لم يكن دومًا هادئ الطبع — على العكس من ذلك — لكنَّ هذا أمر آخر.
وكأن سوزان تستحضر روح طه طوال الوقت تتحدث معه ويرد عليها، مثلما كان يفعل هو مع صديق روحه ورفيق دربه ونظيرة "أبى العلاء المعري" حينما كان يستدعيه بين الحين والآخر ليتحدث معه ويجادله ويعيد مشاكسته بطرح أفكاره وإعادته سردها مرة أخرى، لكن الأمر مختلفًا قليلًا فكانت سوزان تستعدى الحبيب وشريك الحياة وتتذكر كلماته لها وعشقه، وتفاصيل حياتهم التى بدأت بنضال ومستحيل إلى الممكن والتحقيق فحينما شعرت بحبه ووافقت على أن تكون رفيقته قابلتهم العديد من المشكلات والتى تتعلق بالمستوى الاجتماعى والدينى وأنه بالرغم من كل ذلك كان كفيف البصر لكنها أمنت بـ «طه» وبنبوغه وقدره فى أنه سيكون ذات يوم ذو شأن عظيم وهو لم يخيب هذا الرجاء تقول سوزان: "كان لا بدَّ من الحصول على موافقة الجامعة؛ فلم يكن بوسع المبعوثين أن يتزوجوا قبل عودتهم، كما كان لا بد من إعلام أهله، وأخيرًا أعلنَّا خطوبتنا، وبدأتُ العمل معه، وغدا ذلك فى منتهى الجدِّية. كان يُعِدُّ لِنَيل إجازة فى الأدب الكلاسيكي، وكان ذلك امتحانًا عظيمًا لامرئ لم يَدْرس من اللاتينية إلا القليل، ولم يَدْرس ما يكفى من النصوص الفرنسية، كما لم يَدْرس التاريخ؛ امرئ كان عليَّ أن أعلمه كذلك الجغرافيا وأعدَّ له خرائط بارزة (أنا التى لم تعرف شيئًا من الجغرافيا!) — هناك الآن خرائط خاصة بالمكفوفين. وبعد مضيِّ سنوات كان يكتب فى غمرة العاطفة والذكرى: «كنا نتبادل تحية الصباح، وكنت أقبِّل وجهك وخاتمك، ونتحدث فى الحبِّ وفى العلم …»
تزوَّجْنا يوم ٩ أغسطس ١٩١٧ ببساطة مطلقة، إلا أنَّ الجميع أصرُّوا على أن ألبس ثوب الزفاف الأبيض وأن نركب العربة المقفلة. وكان فى الشوارع جنود يقضون إجازاتهم القصيرة بعيدًا عن المعارك، ولم يكن منظر الزيجات آنذاك مألوفًا؛ فكيف يسعنى أن أنسى نظرة المودَّة التى كان يتطلع بها إليَّ هؤلاء الجنود، كانوا يحيوننا ويهتفون: «تحيا العروس!» وكنتُ أقول لهم: «شكرًا!» وكانت تلك الكلمة هزيلة للغاية بالنسبة إلى أولئك الذين كانوا يعودون للجحيم وإلى الموت للكثير منهم، أولئك الذين بلغ بهم الكرم إلى حدِّ أنَّهم كانوا يبتسمون لنا.
حرب ودراسة ومولود يعلن عن قدومه 
وتسترسل سوزان فى حديثها حول طه حسين ومناقشته لرسالة الدكتوراة والتى دافع عنها بشدة، كما أنه نال تهنئة اللجنة لفاحصة، وفى تلك الأثناء كانت حاملا بابنتها أمينة، وسط الحرب والقصف الذى كان قريبًا من مسكنهم، ولهذا أخذها طه حسين وعادوا إلى مونبليبه، فتقول: "كنا نُدهَش بطبيعة الحال ونحن ننكبُّ على طفلتنا. ففى صباح أحد الأيام لاحظت أنها ابتسمَتْ لى عشر مرات، وأنَّ النهار يروق لها وضوءُه يتسرب من خصاص النافذة. ذلك أنها كانت وهى تحييه ﺑ «هو … هو …» معجبة وفرحة تمنح أباها وجهًا مشرقًا."
أما عن طه فكان يذهب عقله بالبعد عنها وكان كلام لطفى بك أكبر دليل على ذلك وتقول فى كتابها:"كان لطفى بك يقول يوم الخميس: إن طه لا يستطيع أن يعمل بعيدًا عن زوجته ذلك أنَّ قلبه لا يكون آنذاك معه! أى نعم! ولا كذلك عقلي، ولعل سكرتيرى قد ضحك فى نفسه؛ فهذا الشاب لا يؤمن بالحب، ولم أكن أنا نفسى لِأُومِنَ به مِنْ قَبْل، إلى أن جاء؛ فلم أَعُدْ أنا نفسى ما كنتُهُ مِنْ قَبْلُ، أما فى نظرى الآن، فالحب حاضر دومًا، وإنما أنا التى لم تَعُدْ هى نفسها؛ إذ إننى لم أَعُدْ أتعرف على نفسى أو العالم على الإطلاق".
حتى عادوا مرة أخرى إلى منزلهم فى باريس فى الحادى عشر من نوفمبر تتفجَّر فرحًا، 
أكتوبر ١٩١٩ حياة حقيقية بالقاهرة
وتعود بالذكريات إلى زيارتها الأولى للقاهرة على ظهر سفينة اللوتس بعد ان قضيا ثلاثة أسابيع بميناء مارسيليا بسبب اضراب العمال، حتى وصلوا إلى الإسكندرية وكان فى انتظارهم محافظ الإسكندرية حسن عبد الرازق والذى قابلهم بالترحاب، والتى وصفتها تلك اللحظة بأنها أسعد لحظات حياتها. 
وتصف لحظة وصولهم إلى الإسكندرية قائلة:"وسرعان ما تشجَّعْتُ لدى وقوف السفينة فى الإسكندرية؛ إذ فى غمرة ارتباكى وأنا أحمل الطفلة على ذراع وأعطى الذراع الأخرى لزوجى الذى كان يحمل ما لا أدريه من الحقائب، رأيت رجلًا كان يتقدَّم نحونا ويبتسم لنا، حسن عبد الرازق، محافظ الإسكندرية، الذى أخذ طه بين ذراعيه معانقًا، ثم عانقنى أيضًا وهو يقول: «إنَّ طه هو أخى الصغير؛ فستكونين إذن أختى الصغيرة» واصطحبنا إلى منزله. 
متابعا: "لقد غدت مصر بالنسبة إليَّ ولأكثر من سبب وطنًا ثانيًا؛ أُحِبُّها كما أَحَبَّها طه، ولست أحتمل أن يُراد بها شرٌّ أو أن يتجاهلها العالم. لقد بدأ ذلك مع حسن عبد الرازق، كنتُ أعرفه قليلًا من خلال الرسائل التى كان يكتبها لطه، ثم عرفته بصورة أفضل وأحببته. وعندما اغتالوه بخسَّة بكيته كما لو كنت أبكى واحدًا من أهلى وكما بكيت مِنْ بَعْدُ أخاه الشيخ مصطفى عبد الرازق، حتى وصلنا إلى القاهرة وبدأت حياتنا الحقيقية.
رسائل ما بعد الرحيل 
فالكتاب أشبه باليوميات التى يحاكى فيها المرء ما مر به من أحداث وحياة كاملة فالعلاقة بين سوزان وطه حسين مختلفة تمامًا فكان هو عقلها وقلبها وكانت هى عينه التى يرى بها العالم، وصوتها هو حلقة الوصل بينه وبين أحبائه الراحلين، وبعد أن رحل لم تجدى سوزان ما يسد هذا الفراغ الذى تركه رفيق حياتها، فقد كان محور حياتها ومناقشتها واحاديثها، وكأنه طفل صغير لا يقوى على فراق أمه وأنه ورغم كبر سنه مازال فى مرحلة المهد لا يقوى على الفراق. 
وليكن فى كتابها «معك» أقوى دليل على قوة هذا الحب وتلك الحياة المتفردة بكل ما تحمله من معانى لم نلتقى من قبل مثل هذين الرفيقين والتى من الصعب وصف ارتباطهما سويًّا بأى معنى لأن هذا الرباط أسمى من كل تلك المعانى، كما أن السنوات التى عاشتها سوزان بعد رحيل طه كانت الأصعب ولهذا أقدمت على كتابه تلك اليوميات لتكون لنا جزء من ذاكرة التاريخ، فقد كانت له كل شيء وكان لها كل الحياة رغم صعابها وقضاياها.
وتصف سوزان طه حسين لحظات الفقد بعد رحيله لتقول:"الآن وقد أصبحت اليد التى كانت دليل طه فارغة، وقد بات من المستحيل عليَّ أن أستند على ذراعه، وقد انهار الصمت الحاسم … أحاول بعد كل شيء أن أتحدث، عندما عدتُ من باريس فى العام الماضي، فتحتُ دفترًا.
وتتابع: "تمزُّق يتجدَّد دون توقُّف: لا يتقاسم المرء حقًّا شيئًا ما، ولا يستمع إلى جواب! صمت فظيع. أقرأ شيئًا ما، وأقول لنفسى فى ومضة: «سأقرأ له هذا على الفور» ثم أشعر بقبضة يدٍ تضرب على صدري". 
حملت إلى منزل ابنتى بالمعادى رسائلك التى أريد أن أقرأها بهدوء كلما استطعت إلى ذلك سبيلًا. وقد انزلقت إحداها هذا الصباح من «الرِّزْمة» ووقعت أرضًا، وكانت تحمل تاريخ ديسمبر ١٩٢٥، وقرأت:"كان كورنيش المعادي، هذا الذى أجوبه الآن كل يوم تقريبًا، مكانَ آخرِ نزهةٍ لكَ فى مصر. كنا نعود من حلوان حيث كان يحلو لك أن تستعيد ذكرى ذلك الخليفة الذى سحرته حلوان٤٢ عندما كانت مزهرة ومخضوضرة. وكنتَ تُلْقى عليَّ قصائدَ مستوحاةً من هذه الأماكن، ومقاطع بأكملها. لم تكن تترك السيارة، لكنكَ كنتَ فى منتهى الراحة خلال هذه النزهات التى لم تكن مع ذلك تريد أن تقوم بها."
نعم؛ هو ذا ما لا يمكن تعويضه: فهناك الآن وستبقى إلى الأبد أشياء لم أَعُدْ أستطيع أن أقولها لأيِّ مخلوق فى العالم".